اخر الأخبار

السِّيرَة النَّبَوِيَّة للامام الحافِظ، أبى الفِداء إسْماعِيل بن كثير


 


 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

تَقْدِيم

الحَمد لله والصَّلاة والسَّلام على رَسُوله، وما تَوْفِيقِي إلّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أنيب.

وبعد: فَهَذا كتاب السِّيرَة النَّبَوِيَّة للامام الحافِظ، أبى الفِداء إسْماعِيل بن كثير، أقدمه للامة الاسلامية راجيا أن يكون فِي نشره من الخَيْر ما يُحَقّق الفائِدَة وما يقدم سيرة الرَّسُول الكَرِيم فِي صُورَة دانية إلى الكَمال قريبَة إلى الحَقِيقَة دقيقة فِي العرض ممحصة الرِّوايات والاخبار.

إن الامام ابْن كثير وهُوَ الحافِظ المتقن قد جمع كل الاخبار عَن حَياة الرَّسُول ودعوته وما سبقها من فَتْرَة الجاهِلِيَّة، وقد بذل جهدا فِي تمحيص الاخبار ونقد أسانيدها، وإن كانَ قد ترخص فِي رِوايَة بعض الاخبار الواهِيَة كَما سنذكر.

وعَمله هَذا يضع أمام القارئ كل ما يُمكن الالمام بِهِ فِي هَذا المجال، ويجعله على بَصِيرَة فِي تفهم السِّيرَة النَّبَوِيَّة ووعى أحداثها.

وقد آسفنى أن تظل طبعة هَذِه السِّيرَة الكَرِيمَة مليئة بالتشويه والتحريف بعيدَة عَن الدقة والضبط، فآثرت عرضها صَحِيحَة بريئة من التحريف والتصحيف قدر الامكان، وضبطها وشرح الغَرِيب فِيها، والتَّعْلِيق على ما يستبعد من الاخبار والآثار.

وسأعود إلى قصَّة هَذا الكتاب وعملى فِيهِ بعد الحَدِيث عَن مُؤَلفه والالمام بشئ من أخباره (١).

ابْن كثير: هُوَ أبُو الفِداء عماد الدّين إسْماعِيل، بن عمر، بن كثير، بن ضوء، ابْن كثير، ابْن زرع، القرشى، الشّافِعِي.

كانَ أصله من البَصْرَة، ولكنه نَشأ بِدِمَشْق وتربى بها.

ولد بمجدل القرْيَة من أعمال مَدِينَة بصرى شَرْقي دمشق، سنة سَبْعمِائة أو إحْدى وسَبْعمائة.

وتوفى بعد أن فقد بَصَره، فِي يَوْم الخَمِيس السّادِس والعِشْرين من شعْبان سنة أربع وسبعين وسَبْعمائة، عَن أربع وسبعين سنة.

نشأته: كانَ أبوهُ خَطِيبًا لقريته،، وبعد مولد ابْن كثير بِأرْبَع سِنِين توفى والِده، فرباه

أخُوهُ الشَّيْخ عبد الوَهّاب.

وعَلى هَذا الاخ تلقى ابْن كثير علومه فِي مبدأ أمره.

ثمَّ انْتقل إلى دمشق سنة ٧٠٦ فِي الخامِسَة من عمره.

شُيُوخه: كانَت دراسة ابْن كثير متجهة إلى الفِقْه والحَدِيث وعلوم السّنة، إذْ كانَت الوجهة الغالِبَة فِي عصره، وشيوخه فِي هَذا المجال كَثِيرُونَ.

(١) تَرْجَمته فِي شذرات الذَّهَب ٦ / ٢٣١.

والدرر الكامنة ١ / ٣٧٤ وذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ٥٨.

وديل الطَّبَقات للسيوطي.

(*)

فقد تفقه بالشيخ برهان الدّين إبْراهِيم بن عبد الرَّحْمَن الفزارى الشهير بِابْن الفركاح، المُتَوفّى سنة ٧٢٩.

وسمع بِدِمَشْق من عِيسى بن المطعم، ومن أحْمد بن أبى طالب المعمر الشهير بِابْن الشّحْنَة المُتَوفّى سنة ٧٣٠؛ ومن القاسِم ابْن عَساكِر، وابْن الشِّيرازِيّ، وإسْحاق ابْن الآمِدِيّ، ومُحَمّد بن زراد.

ولازم الشَّيْخ جمال يُوسُف بن المزكى المزى، صاحب تَهْذِيب الكَمال، المُتَوفّى سنة ٧٤٢.

وقد انْتفع بِهِ ابْن كثير، وتخرج بِهِ، وتزَوج بابنته.

كَما قَرَأ كثيرا على شيخ الاسلام تقى الدّين بن تَيْمِية، المُتَوفّى سنة ٧٢٨، ولازمه وأحبه وتأثر بآرائه.

وفى ذَلِك يَقُول ابْن العِماد: (كانَت لَهُ خُصُوصِيَّة بِابْن تَيْمِية ومناضلة عَنهُ واتِّباع لَهُ فِي كثير من آرائه، وكانَ يُفْتى بِرَأْيهِ فِي مَسْألَة الطَّلاق، وامتحن بِسَبَب ذَلِك وأوذى).

ويَقُول ابْن حجر: (وأخذ عَن ابْن تَيْمِية ففتن بحبه وامتحن بِسَبَبِهِ).

كَما قَرَأ على الشَّيْخ الحافِظ المؤرخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ مُحَمَّد بن أحْمد بن قايماز المُتَوفّى سنة ٧٤٨.

وأجازَ لَهُ من مصر أبُو مُوسى القرافى، والحسيني، وأبُو الفَتْح الدبوسي، وعَلى بن عمر الوانى، ويوسى الختنى.

وغير واحِد.

وقد ولى ابْن كثير مشيخة أم الصّالح والتنكزية بعد إمامه الذَّهَبِيّ.

كَما ذكره الذَّهَبِيّ فِي مسودة طَبَقات الحفاظ.

(١)

(١) ذيل تذكرة الحقاظ للحسيني ٥٨: (*)

عصره: عاشَ ابْن كثير فِي القرن الثّامِن الهجرى، من بداية هَذا القرن إلى قرب منتهاه، فِي ظلّ دولة المماليك الَّتِى كانَت تبسط سلطانها على مصر والشّام.

وكانَت فِي عصره نكبات شَدِيدَة شَهِدَها العالم الاسلامي، ممثلة فِي هجوم التتار، وفى كَثْرَة المجاعات والاوبئة، وفى تقلب السلطة بَين أُمَراء المماليك الَّذين كانُوا يوالون الانتقاض بَعضهم على بعض … ويكاد الانسان لا يفتح سنة من سنوات حَياة ابْن كثير فِي كتب التراجم والتاريخ إلّا ويجد فِيها أنباء المجاعات والاوبئة وهجوم الافرنج والتتار ومصارع الامراء، مِمّا لا يُوصف بِأنَّهُ حَياة سياسية مُسْتَقِرَّة.

ولَكِن تِلْكَ الحقبة الَّتِى عاشها ابْن كثير من عصر المماليك كانَ يسودها نشاط علمي، تمثل فِي كَثْرَة المدارِس واتساع نطاق التَّعْلِيم وكَثْرَة التَّأْلِيف، ولذَلِك اسباب مَذْكُورَة فِي التّارِيخ من تنافس الامراء وكَثْرَة الاوقاف على العلماء وبِناء المدارِس واتصال الاقطار الاسلامية بَعْضها بِبَعْض، وغير ذَلِك.

ولَكِن ذَلِك النشاط كانَ محصورا فِي دائِرَة ضيقَة دائِرَة الِاتِّباع والتقليد والتَّلْخِيص والاختصار والشَّرْح، كَذَلِك كانَ هَذا النشاط منصرفا فِي كثرته إلى العُلُوم

الشَّرْعِيَّة وما يخدمها.

ويبدو طابع ذَلِك العَصْر واضحا فِي ابْن كثير، إذْ كانَ انْصِرافه إلى عُلُوم السّنة والفِقْه، أو العُلُوم الشَّرْعِيَّة بِوَجْه عام وكانَت مؤلفاته يغلب عَلَيْها طابع التَّأْلِيف فِي عصره، وهُوَ الميل إلى اخْتِصار كتب الاقدمين، أو إدماج بَعْضها فِي بعض أو شرحها والتَّعْلِيق عَلَيْها.

وإذا كانَ لِابْنِ كثير طابع تَجْدِيد تميز بِهِ، فَإنَّهُ قد اكْتَسبهُ من علاقته بِابْن تَيْمِية وحبه لَهُ وتأثره بآرائه، فقد كانَ ابْن كثير كأستاذه ابْن تَيْمِية ينفر من الخرافات ويميل إلى الرُّجُوع إلى السّنة ويعتمد على التَّحْقِيق والتدقيق بوسيلته الَّتِى يملكها، وهى نقد الاسانيد وتمحيص الاخبار.

كَذَلِك كانَ ابْن كثير فِي تَفْسِيره إمامًا وصاحب مدرسة، إذْ نفر من الاسرائيليات والاخبار الواهِيَة، كَما نفر من التفلسف وإقحام الرأى فِي كتاب الله، وآثر مَنهَج تَفْسِير القُرْآن بِالقُرْآنِ ثمَّ بِالحَدِيثِ والاثر.

مَنزِلَته وآراء العلماء فِيهِ: احتل ابْن كثير منزلَة عالية فِي الفِقْه والتَّفْسِير والحَدِيث والفَتْوى..يَقُول عَنهُ الذَّهَبِيّ: (الامام المُفْتى المُحدث البارع، فَقِيه متفنن، ومفسر نقال، وله تصانيف مفيدة.

ويَقُول عَنهُ ابْن حجر: (اشْتغل بِالحَدِيثِ مطالعة فِي متونه ورِجاله، وكانَ كثير الاستحضار حسن المفاكهة، سارَتْ تصانيفه فِي حَياته، وانتفع النّاس بها بعد وفاته).

ويَقُول عَنهُ ابْن تغرى بردى: (لازم الِاشْتِغال ودأب وحصل وكتب، وبرع فِي الفِقْه والتَّفْسِير والحَدِيث، وجمع وصنف، ودرس وحدث وألف، وكانَ لَهُ اطلاع عَظِيم فِي الحَدِيث والتَّفْسِير والفِقْه والعربية، وغير ذَلِك.

وأفْتى ودرس إلى أن توفى).

وقد اشْتهر ابْن كثير بالضبط والتحرى والِاسْتِقْصاء، وانتهت إلَيْهِ فِي عصره الرياسة فِي التّارِيخ والحَدِيث والتَّفْسِير.

يَقُول عَنهُ ابْن حجى، أحد تلامذته: (أحفظ من أدركناه لمتون الاحاديث ورجالها، وأعرفهم بجرحها وصحيحها وسقيمها، وكانَ أقرانه وشيوخه يعترفون لَهُ بذلك،

وما أعرف أنى اجْتمعت بِهِ على كَثْرَة ترددي إلَيْهِ إلّا واستفدت مِنهُ).

ويصفه ابْن العِماد الحنبلى فَيَقُول: (كانَ كثير الاستحضار قَلِيل النسْيان، جيد الفَهم يُشارك فِي العَرَبيَّة وينظم نظما وسطا.

قالَ فِيهِ ابْن حبيب: سمع وجمع وصنف، وأطرب الاسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاوية إلى البِلاد، واشتهر بالضبط والتحرير) ويَقُول عَنهُ ابْن حجر: (ولم يكن على طَرِيق المُحدثين فِي تَحْصِيل العوالي وتمييز العالي من النّازِل ونَحْو ذَلِك من فنونهم، وإنَّما هُوَ من محدثي الفُقَهاء).

ولَكِن السُّيُوطِيّ يُجيب على كَلام ابْن حجر بقوله: (العُمْدَة فِي علم الحَدِيث على معرفَة صَحِيح الحَدِيث وسقيمه وعلله واخْتِلاف طرقه ورِجاله جرحا وتعديلا، وأما العالي والنازل ونَحْو ذَلِك فَهُوَ من الفضلات، لا من الاصول المهمة).

شعره: كانَ ابْن كثير - كَما قالَ ابْن العِماد - (ينظم نظما وسطا) ولا يذكر لَهُ إلّا القَلِيل من النّظم، مثل قَوْله: تمر بِنا الايام تترى وإنَّما * نساق إلى الآجال والعين تنظر

فَلا عائِد ذاك الشَّباب الذى مضى * ولا زائل هَذا المشيب المكدر وعَلى كل فَهُوَ لم يشْتَهر بقول الشّعْر.

أسلوبه: كانَ ابْن كثير يُشارك فِي العَرَبيَّة، وثقافته الادبية جَيِّدَة، ولَكِن أسلوبه كانَ على مُقْتَضى عصره من إيثار السجع والميل إلى المحسنات، ويشتمل أسلوبه فِي بعض الاحيان على ألْفاظ لا تناسب مستوى ابْن كثير.

وفِي كِتابه الذى نقدمه نماذج لذَلِك، مثل اسْتِعْماله كلمة (الاذية) وكلمَة (مشترى) وغير ذَلِك من أساليب غير متناسقة وجمل غير متناسبة.

والحقيقة أن ابْن كثير لم يكن مِمَّن يهتمون بالعبارة أو يتجملون فِي الاسلوب، وإن كانَ أسلوبه فِي التَّفْسِير قَوِيا متناسبا، وإنَّما هُوَ إمام مُفَسّر وفقيه مُحدث، ولم يكن أديبا متفننا يحرص على جمال العبارَة وتناسق الاسلوب.

كتبه: اشْتغل ابْن كثير بالتأليف والتصنيف، وأكْثر كتبه فِي الحَدِيث وعلومه، ومؤلفاته مَعْدُودَة، وأهمها: ١ - تَفْسِير القُرْآن الكَرِيم الذى قالَ فِيهِ السُّيُوطِيّ: (لم يؤلف على نمطه مثله).

وهُوَ يعْتَمد على التَّفْسِير بالرواية، فيفسر القُرْآن بِالقُرْآنِ، ثمَّ بالاحاديث المشتهرة يَسُوقها بأسانيدها، ثمَّ ينْقد تِلْكَ الاسانيد ويحكم عَلَيْها، ثمَّ يذكر الآثار المروية عَن الصَّحابَة والتّابِعِينَ.

وهُوَ مطبوع مَشْهُور.

٢ - (البِدايَة والنِّهايَة) فِي التّارِيخ.

وهُوَ موسوعة ضخمة، ابْتَدَأ فِيهِ بِذكر قصَص الانبياء وأخبار الامم الماضِيَة، وفقا

لما ورد فِي القُرْآن والاحاديث الصَّحِيحَة، ويكشف زيف الاسرائيليات والغرائب والمناكير.

ثمَّ يذكر أخْبار العَرَب وأحداث الجاهِلِيَّة، ثمَّ سيرة الرَّسُول ﷺ حَتّى وفاته، ثمَّ يُتابع أحْداث التّارِيخ الاسلامي مُنْذُ خلافَة أبى بكر حَتّى عصر ابْن كثير فِي القرن الثّامِن الهجرى.

ثمَّ يختمه بأشراط السّاعَة والفتن والملاحم وأحوال الآخِرَة.

وتاريخ ابْن كثير هَذا مرجع دَقِيق موفق لا يزال عَلَيْهِ التعويل.

قالَ عَنهُ ابْن تغرى بردى: (وهُوَ فِي غايَة الجَوْدَة).

وهُوَ مطبوع، وإن كانَت طبعة رَدِيئَة.

٣ - اخْتِصار عُلُوم الحَدِيث لِابْنِ الصّلاح.

وهُوَ كتاب نافِع أضاف فِيهِ ابْن كثير فَوائِد كَثِيرَة، ورتبه واخْتَصَرَهُ.

وهُوَ مطبوع مَعَ تعليقات للمرحوم الشَّيْخ أحْمد شاكر باسم (الباعِث الحثيث).

٤ - مُخْتَصر كتاب (المدْخل إلى كتاب السّنَن) للبيهقي ذكره فِي مُقَدّمَة اخْتِصار عُلُوم الحَدِيث.

وهُوَ مخطوط.

٥ - رِسالَة فِي الجِهاد.

مطبوعة.

٦ - (التَّكْمِيل فِي معرفَة الثِّقات والضعفاء والمجاهيل) جمع فِيهِ كتابي (تَهْذِيب الكَمال) للمزى و(ميزان الِاعْتِدال) للذهبي.

وزاد عَلَيْهِما زيادات مفيدة فِي الجرْح والتَّعْدِيل.

وهُوَ مخطوط.

٧ - (الهدى والسّنَن فِي أحادِيث المسانيد والسّنَن) وهُوَ المَعْرُوف بِجامِع المسانيد، جمع فِيهِ بَين مُسْند أحْمد والبَزّار وابى يعلى وابْن أبى شيبَة، مَعَ الكتب السِّتَّة الصَّحِيحَيْنِ والسّنَن الاربعة.

ورتبه على أبْواب وهُوَ مخطوط

٨ - مُسْند الشَّيْخَيْنِ أبى بكر وعمر.

وفِيه - كَما قالَ ابْن كثير فِي سيرته الَّتِى بِأيْدِينا صفحة ٤٣٣ - ذكر كَيْفيَّة إسْلام أبى بكر وأورد فضائله وشمائله وأتبع ذَلِك بسيرة الفارُوق رضى الله عَنهُ، وأورد ما رَواهُ كُلٌّ مِنهُما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن الأحادِيثِ وما رَوى عَنْهُ مِنَ الآثارِ والأحْكامِ والفَتاوى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَلاث مجلدات وللَّه الحَمد والمنَّة! كَما قالَ ابْن كثير.

وهُوَ مخطوط أيْضا لا نَدْرِي أيْن هُوَ.

٩ - السِّيرَة النَّبَوِيَّة مُطَوَّلَة ومختصرة ذكرها فِي تَفْسِيره فِي سُورَة الاحزاب فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق.

ولم تنشر قبل.

١٠ - طَبَقات الشّافِعِيَّة.

مُجَلد وسط، ومَعَهُ مَناقِب الشّافِعِي.

مخطوط.

١١ - تَخْرِيج أحادِيث أدِلَّة التَّنْبِيه فِي فقه الشّافِعِيَّة.

١٢ - وخرج أحادِيث مُخْتَصر ابْن الحاجِب.

١٣ - كتاب المُقدمات.

ذكره فِي اختصاره مُقَدّمَة ابْن الصّلاح وأحال عَلَيْهِ.

١٤ - ويذكر ابْن حجر أنه شرع فِي شرح للْبُخارِيّ ولم يكمله.

١٥ - وشرع فِي كتاب كَبِير فِي الاحكام، لم يكمل، وصل فِيهِ إلى الحَج.

وهَكَذا نجد اتجاه ابْن كثير نَحْو السّنة وعلومها يَتَّضِح فِي كتبه، وتغلب عَلَيْهِ روح عصره فَيتَّجه إلى المختصرات والشروح ونَحْوها، وظهر ابتكاره فِي كِتابَته لتاريخه الفَذ: (البِدايَة والنِّهايَة) وفى تَفْسِيره لِلْقُرْآنِ الكَرِيم.

ولم يخرج فِي تأليفه عَن النطاق الذى دارت حوله دراسته وأفنى فِيهِ عمره، وهُوَ الحَدِيث والتاريخ والتَّفْسِير والاحكام.

وقد شاع الِانْتِفاع بِالقدرِ القَلِيل الذى عرف طَرِيقه إلى النّاس من كتب هَذا الامام

العَظِيم، ولَكِن الاسى يغشانا حِين نسْأل: أيْن هَذِه الكتب الَّتِى تذكر لَهُ ولا يهتدى إلى مَكانها؟ ! والتى نعتقد أنَّها لَو عثر عَلَيْها وقدمت إلى النّاس لسدت فراغا وحققت نفعا.

إن من المؤسف أن يبدد تراث عَزِيز وتحرم مِنهُ أمة محتاجة.

ونحن نَدْعُو من هُنا كل الَّذين يعنون بِأمْر الثراث الاسلامي، وخاصة المسئولين عَن ذَلِك فِي الدولة، أن يبحثوا عَن آثار هَذا الامام العَظِيم، وأن يهيئوا لكتبه النافعة السَّبِيل كى تَأْخُذ طريقها إلى أيدى النّاس، وأن يُعاد تَقْدِيم كتبه المطبوعة فِي صُورَة صَحِيحَة لائقة، بعيدَة عَن التِّجارَة والاستغلال.

هَذا الكتاب: ولكتابنا هَذا الذى نقدمه اليَوْم قصَّة.

فَلَقَد كانَ الخَيط الذى أمسكنا بِهِ هُوَ أن ابْن كثير ذكر فِي تَفْسِيره فِي سُورَة الاحزاب فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق، أنه قد كتب السِّيرَة النَّبَوِيَّة مُطَوَّلَة ومختصرة، حَيْثُ يَقُول: (وهَذا كُله مُقَرر مفصل بأدلته وأحادِيثه وبسطه فِي كتاب السِّيرَة الذى أفردناه موجزا وبسيطا وللَّه الحَمد والمنَّة).

ومعنى ذَلِك أن كِتابَته للسيرة النَّبَوِيَّة قد عرفت طريقها إلى أيدى النّاس فِي عصره، ولَكِن البَحْث فِي ناحيَة المخطوطات لم يدل على وجود تِلْكَ السِّيرَة ككتاب مُسْتَقل، ويبدو أنه حينما ألف كِتابه الضخم (البِدايَة والنِّهايَة) قد أدمج تِلْكَ السِّيرَة فِيهِ، وأن شهرة ذَلِك الكتاب وانتشاره فِي الانحاء، قد جعل النّاس يقرأون تِلْكَ السِّيرَة فِيهِ، ولم يعد لَها كيان مُسْتَقل ككتاب، وإذا كانَ ابْن كثير قد ذكر أنه لَهُ السِّيرَة النَّبَوِيَّة

مبسوطة، أي مُطَوَّلَة، فَإنَّهُ لا يعقل أن يكْتب فِيها أكثر من ذَلِك القسم المَوْجُود بكتابه (البِدايَة والنِّهايَة).

ومن هُنا فقد اتجهت إلى نشر (السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير) وهى ذَلِك القسم الذى

أفرده ابْن كثير لاخبار العَرَب فِي الجاهِلِيَّة وسيرة النَّبِي صلوات الله وسَلامه عَلَيْهِ وتاريخ دَعوته حَتّى وفاته.

على اعْتِبار أن هَذا القسم هُوَ السِّيرَة النَّبَوِيَّة المطولة الَّتِى أشارَ إلَيْها ابْن كثير فِي تَفْسِيره.

والذى دَعاني إلى ذَلِك اسباب مِنها: ١ - أن تِلْكَ السِّيرَة قد شغلت نَحْو ثَلاثَة أجزاء من كتاب البِدايَة والنِّهايَة، من أواخِر الجُزْء الثّانِي حَتّى أواخِر الجز الخامِس، وهى بذلك موزعة بَين أرْبَعَة أجزاء.

٢ - أن هَذِه الاجزاء من البِدايَة والنِّهايَة مُرْتَفعَة الثّمن جدا، حَتّى لقد بلغ ثمن الجُزْء الثّالِث وحده أرْبَعَة جنيهات مصرية إن وجد! ! تبعا لاحتكار التِّجارَة فِي المراجع وقلة النّسخ المَوْجُودَة.

٣ - أن هَذِه الطبعة المشار إلَيْها مليئة بالتحريف والتشويه بِصُورَة فظيعة، ولا أدرى كَيفَ ظلت هَذِه الطبعة تتداول فِي أيدى العلماء والطلاب مَعَ أنَّها لاتكاد تَخْلُو صفحة مِنها من تَحْرِيف أو تَصْحِيف أو سقط.

تِلْكَ الاسباب جَعَلتني أرى فِي نشر السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير تَحْقِيقا لفوائد كَثِيرَة … أهمها تَعْمِيم النَّفْع بها بعد أن كانَت محصورة فِي أيدى قلَّة مِمَّن يقدرُونَ على شِراء البِدايَة والنِّهايَة كلها بِثمنِها المُرْتَفع.

وكَذَلِكَ تَحْقِيق قصد ابْن كثير حِين كتب تِلْكَ السِّيرَة المطولة وأرادَ أن تشيع وحدها بَين النّاس.

وكَذَلِكَ إنصاف ذَلِك العَمَل الجَلِيل من أن يظل فِي صورته الشائهة المليئة بالتحريف.

سيرة ابْن كثير: ونقف هُنا مستعرضين كِتابَة ابْن كثير فِي سيرة الرَّسُول صلوات الله وسَلامه عَلَيْهِ، متأملين فِي خَصائِصه باحثين عَن منهجه.

١ - إن أول ما نلمسه فِي سيرة ابْن كثير أنه اهتم بالرواية بالاسانيد، تمشيا مَعَ صبغته الغالِبَة عَلَيْهِ كإمام مُحدث، وأكْثر مروياته عَن الامام أحْمد والبَيْهَقِيّ، وأبى نعيم.

فَلم يكتف بِنَقْل ما كتبه أهل السّير أمْثال ابْن إسْحاق ومُوسى ابْن عقبَة، ولكنه جمع ما رَواهُ أهل الحَدِيث وبِذَلِك اكْتسب مزية يتفرد بها بَين من كتبُوا فِي السِّيرَة.

وقد نقد ابْن كثير بعض الاسانيد عِنْد ما يكون المَتْن غَرِيبا، ليحكم على بعض الاحاديث، وأحْيانا يبين دَرَجَة الحَدِيث دون أن ينْقد السَّنَد ٢ - ثمَّ نجد ابْن كثير يمتاز بِأنَّهُ ينْقل عَن بعض كتب السّير المفقودة مثل كتاب مُوسى بن عقبَة، ومثل كتاب الاموى فِي المغازى، كَما ينْقل عَن بعض شُرُوح السِّيرَة مثل الرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي، والشفا للقاضى عِياض.

٣ - وفى مجال الاستشهاد بالشعر لا يهمل ابْن كثير هَذِه النّاحِيَة، ولكنه لا يُتابع ابْن هِشام فِي كل مروياته من الشّعْر فيختصر بَعْضها ويهمل البَعْض الآخر.

٤ - وبِالجُمْلَةِ فَإن ابْن كثير يحرص على جمع كل ما كتب فِي المَوْضُوع الذى يتَناوَلهُ،

ولكنه لا يدمج الاحاديث والاخبار بَعْضها فِي بعض، بل يحْتَفظ لكل نقل بطابعه ومكانه، وكَثِيرًا ما يعوزه التَّرْتِيب فِي النَّقْل، فَلا ينسق الاخبار الَّتِى ينقلها حَتّى تكون وحدة منسجمة فأحيانا يبْدَأ بالخبر المطول، ثمَّ يذكر بعده أخْبارًا تحتوى على جانب من هَذا الخَبَر أو تكرره ٥ - فَإذا تتبعنا نقُول ابْن كثير عَن غَيره وجدنا فِيها ظاهِرَة عَجِيبَة..هِيَ: أنه يكاد لا يلْتَزم نَص أي شئ يَنْقُلهُ..! فنقوله عَن ابْن إسْحاق أغلبها

بِالمَعْنى، وقد تتبعت ذَلِك فِي بعض الصفحات، ورَأيْت أن إثْبات الفروق بَين ابْن كثير وابْن إسْحاق شئ يطول مداه، فابْن كثير يقدم ويُؤَخر ويزِيد وينْقص، ويغير ويبدل ويفوت بِهَذا التَّغْيِير والتبديل كثير من جمال عبارَة ابْن إسْحاق وتناسقها كَذَلِك نجد رِوايات ابْن كثير للاحاديث تخْتَلف بعض الِاخْتِلاف عَمّا فِي أيدى النّاس من الكتب الَّتِى ينْقل ابْن كثير عَنْها.

فأحاديث البُخارِيّ الَّتِى يَرْوِيها ابْن كثير بقوله: (وقالَ البُخارِيّ) لا تنطبق حرفيا مَعَ صَحِيح البُخارِيّ الذى بِأيْدِينا.

كَذَلِك القَوْل فِي رِوايَته عَن صَحِيح مُسلم وعَن مُسْند أحْمد وعَن دَلائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وعَن دَلائِل النُّبُوَّة للبيهقي، وعَن الشفا للقاضى عِياض وعَن الرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي … تكاد لاتجد خَبرا مطابقا بِحُرُوفِهِ لما فِي الكتب المتداولة، فَلا يَخْلُو الامر من تَغْيِير أو نقص أو اخْتِصار.

وحين نقف أمام هَذِه الظّاهِرَة نبحث عَن أسبابها فَإن هُناكَ أحد احْتِمالَيْنِ:

١) إمّا أن يكون ابْن كثير - وهُوَ الامام الحافِظ المتقن - كانَ يعْتَمد على حفظه ورِوايَته ولا ينْقل عَن النّسخ المتداولة ٢) وإمّا أنه كانَت هُناكَ نسخ أُخْرى تخْتَلف عَمّا وصل إلَيْنا من هَذِه الكتب.

وعَلى كل فَإن مثل ابْن كثير حجَّة فِي باب الحَدِيث ولكنها على أي حال ظاهِرَة تستلفت النّظر أن تكون رِوايات ابْن كثير للاحاديث ونقوله عَن الكتب مُخالفَة لما فِي أيْدِينا من هَذِه الكتب … وهى مُخالفَة لفظية يسيرَة فِي بعض الاحيان.

٦ - فَإذا ما تفحصنا مَنهَج ابْن كثير فِي الرِّوايات، رَأيْناهُ لا يُبالِي بِرِوايَة كثير من الاخبار الواهِيَة وخاصة فِي أخْبار الجاهِلِيَّة وهتاف الجان وقصصه.

وقد كانَ بإمكانه ألا يلْتَفت إلى هَذِه الاخبار الَّتِى لا تتمالك أمام النَّقْد، لكنه كانَ يُبرئ نَفسه بأمرين: ١) ذكر السَّنَد فِي كل خبر يُثبتهُ، وبِذَلِك يلقى التبعة على غَيره.

ب) أنه كانَ يعلق على بعض هَذِه الاخبار بِأنَّهُ (غَرِيب جدا) أو (لم يخرجوه) ونَحْو ذَلِك مِمّا يضعف جانب الخَبَر.

لكننا مَعَ ذَلِك نود أن لَو أهمل ابْن كثير هَذِه الاخبار الَّتِى لَيْسَ لَها سَنَد من العقل أو الحَقِيقَة، والتى تزحم الاذهان وتشوش على الحَقائِق.

وخاصة فِيما يتَّصل بحياة الرَّسُول الكَرِيم صلوات الله عَلَيْهِ، فمثلا الحَدِيث الذى يرويهِ عَن البيهقى عَن العَبّاس أنه قالَ للرسول ﷺ: (رَأيْتُكَ فِي المَهْدِ تُناغِي القَمَرَ وتُشِيرُ إلَيْهِ بإصبعك، فَحَيْثُ أشرت إلَيْهِ مال) ! ثمَّ يذكر مُوافقَة الرَّسُول على ذَلِك حَدِيث لا يتَّفق مَعَ العقل أو مَعَ حقائق الوُجُود، ولا يغنينا بعد ذَلِك أن يَقُول ابْن كثير: (تفرد بِهِ أحْمد بن إبْراهِيم الحلَبِي وهُوَ مَجْهُول).

إن مثل هَذا الحَدِيث يفتح ثغرة أمام أعداء الاسلام ليهجموا على السِّيرَة النَّبَوِيَّة من

باب أمْثال هَذا الحَدِيث من الواهيات والموضوعات.

كَذَلِك خبر خالِد بن سِنان، وهتاف الجان وأساطيره، سار فِيها ابْن كثير شوطا بَعيدا ممتلئا بالخرافات والاساطير.

لكننا مَعَ ذَلِك ننتحل العذر لِابْنِ كثير فِي إثْبات مثل هَذِه الاخبار، إذْ كانَ عصره يحتفل بها ويهتم بروايتها، وإذا كانَ قَصده فِي كِتابه الجمع والِاسْتِقْصاء وما دامَ قد أخلى تَبعته بِإسْناد كل خبر إلى روايه واهتم بالتخريج والحكم، فَإنَّهُ بذلك يكون قد أدّى واجبه وقامَ بِما عَلَيْهِ.

٧ - إن المطالع للسيرة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير يحمد لهَذا الرجل جهده الذى قامَ بِهِ، إذْ مزج أخْبار السِّيرَة بروايات الاحاديث فسن بذلك نهجا جَدِيدا لم يكن من قبله يهتمون بِهِ.

وإذ جمع كل ما يُمكن فِي هَذا المجال، فَوضع أمام المطالع لكتابه مادَّة وافية تمكنه من الدراسة والاحاطة والاستيفاء.

وقد أعان ابْن كثير على ذَلِك عصره المُتَأخر وإحاطته بالاحاديث وإجادته للروايات والاخبار.

مَنهَج التَّحْقِيق:

اعتمدت فِي إخْراج السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير على ما يَأْتِي:

١ - نُسْخَة مصورة من البِدايَة والنِّهايَة لِابْنِ كثير تحمل رقم ١١١٠ تارِيخ بدار الكتب المصرية، وهى مصورة عَن مكتبة ولى الدّين ٢٣٤٧ بالآستانه.

وإليها الاشارة بالحرف (ا).

٢ - نُسْخَة مخطوطة من البِدايَة والنِّهايَة بالمكتبة التيمورية تحمل رقم ٢٤٤٣ تارِيخ وهى ناقِصَة من أولها.

٣ - النُّسْخَة المطبوعة من البِدايَة والنِّهايَة سنة ١٣٥١ بمطبعة السَّعادَة وقد قوبلت على أصلين الاصل المصور المشار إلَيْهِ فِي هوامشها بالنسخة المصرية.

وعَلى نُسْخَة مَحْفُوظَة بِالمَدْرَسَةِ الاحمدية بحلب وعَلى كانَ فَإن مخطوطات البِدايَة والنِّهايَة المَذْكُورَة لا تتسم بالدقة، إذْ أن فِيها أخطاء أشرت إلى كثير مِنها فِي هوامش هَذا الجُزْء، ويبدو أنَّها كتبت فِي عصور مُتَأخِّرَة، أو تولى نسخها من لا يعول على التَّحْقِيق.

وقد كانَ جهدي فِي إخْراج هَذِه السِّيرَة متجها إلى ضَبطها وتنقيتها من الاخطاء الَّتِى خرجت بها إلى النّاس فِي النُّسْخَة المطبوعة الشائعة من البِدايَة والنِّهايَة وتشارك فِي أكْثَرها النّسخ المخطوطة، فَرَجَعت إلى الاصول الَّتِى أشارَ إلَيْها ابْن كثير، مثل كتب السّير وكتب الحَدِيث، عدا بعض ما لم يَتَيَسَّر الرُّجُوع إلَيْهِ مثل مُعْجم الطَّبَرانِيّ وهواتف الجان للخرائطي ودَلائِل النُّبُوَّة للبيهقي.

ولم أحاول إثْبات الفروق بَين ابْن كثير وبَين كل ما ينْقل عَنهُ، إذْ تبينت - كَما أشرت إلى ذَلِك قَرِيبا - أن ابْن كثير يُخالف فِي كِتابه النُّصُوص الَّتِى بأيدى النّاس من الكتب الَّتِى ينْقل عَنْها، فَلا يَخْلُو الامر من زِيادَة أو نقص أو تَغْيِير أو تَبْدِيل، ولَكِنِّي أثبت بعض الفروق على سَبِيل المِثال، مثل الفروق بَينه وبَين البُخارِيّ ودَلائِل النُّبُوَّة لابي نعيم ومَكارِم الاخلاق للخرائطي، والرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي، ومسند أحْمد وسيرة ابْن هِشام والشفاء ونَحْو ذَلِك، ولَو أنى التزمت إثْبات كل الفروق بَينه وبَين إسْحَق أو البُخارِيّ أو أحْمد وغير ذَلِك، لطال الامر واتسع المدى، ولَيْسَ فِي ذَلِك كَبِير فائِدَة.

كَذَلِك أثبت أهم الفروق بَين النّسخ المخطوطة والمطبوعة على ندرة ذَلِك.

ولم أعول فِي التَّعْلِيق إلّا على تصويب الاخطاء وشرح ما يغمض من المُفْردات، ولم أتوسع فِي التَّعْرِيف بالاعلام، لان ذَلِك لا فائِدَة مِنهُ فِي مثل هَذا الكتاب، وحَتّى لا يخرج

بِنا الامر إلى أن يصير الكتاب حاشِيَة من الحواشى القَدِيمَة، إذْ لا فائِدَة فِي التَّعْلِيق على كل ما يُمكن التَّعْلِيق عَلَيْهِ، بل الفائِدَة فِي التَّعْلِيق ما يجب التَّعْلِيق عَلَيْهِ، وقد يلمس القارئ أن أسانِيد الرِّوايات والاحاديث لم تظفر بِما ينبغى لَها من التَّعْرِيف بهؤلاء الرِّجال وذكر وفياتهم، ولَو أنى فعلت ذَلِك لخرجنا بِكِتاب فِي رجال الحَدِيث ما أرى قارِئ السِّيرَة النَّبَوِيَّة بحاجة إلَيْهِ، وفى هَذا الباب كتب متخصصة ميسرَة لمن أرادها.

ويلحظ أنى تدخلت بِنَقْد بعض الاخبار الَّتِى ذكرها ابْن كثير، ولم أملك أمامها سوى الاستبعاد العقلِيّ، وقد رَأيْت ذَلِك واجِبا حَتّى يتَنَبَّه القارئ إلى أنه لَيْسَ مطالبا بِتَصْدِيق كل ما أثْبته ابْن كثير فِي كِتابه هَذا مادام لَيْسَ ثابتا بِدَلِيل شرعى صَحِيح أو لَيْسَ لَهُ سَنَد من العقل، وخاصة الاشعار الَّتِى تبدو عَلَيْها الصّفة والتكلف، والاخبار الاسطورية الَّتِى لا تناسب يقظة البشرية وارتقاءها، ولَيْسَ جانب السَّنَد هُوَ الذى يهمنا فِي الخَبَر فَحسب، بل يطْلب أن يكون المَتْن أيْضا منتسبا إلى الحَقِيقَة بَعيدا عَن التزوير.

وقد نقد ابْن خلدون، وهُوَ الامام الحجَّة، كثيرا من الاخبار بِهَذا المنْهَج، مَنهَج الاستبعاد العقلِيّ وبَيان مُنافاة الخَبَر للسنن الكونية والظروف التاريخية، كَما أشارَ إلى ذَلِك فِي أول مقدمته.

ولم أر فائِدَة فِي تَخْرِيج الاخبار، أي ذكر أماكِن وجودها فِي الكتب، إذْ أن أكثر أخْبار السِّيرَة مُشْتَرك بَين الكتب الَّتِى تتناولها، فَلا يُفِيد القارئ أن نذْكر أن هَذا الخَبَر مثلا مَوْجُود فِي سيرة ابْن هِشام وتاريخ الطَّبَرِيّ وشرح المَواهِب والشفاء والرَّوْض الانف ودَلائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وعيون الاثر والاكتفا للكلاعي والوفا لِابْنِ الجوزى والسيرة الحلبية وما إلى ذَلِك من كتب السِّيرَة بالاضافة إلى ما يُمكن أن يُوجد فِيهِ الخَبَر من كتب الحَدِيث، وفى كل ذَلِك نذْكر أرقام الصفحات، إن ذَلِك كانَ يملا حيزا كَبِيرا لا حاجَة

إلَيْهِ، ويكفى أن يعلم القارئ أن أكثر أخْبار السِّيرَة النَّبَوِيَّة وما قبلها من فَتْرَة الجاهِلِيَّة مُشْتَرك بَين هَذِه الكتب الَّتِى ذَكرناها وغَيرها من كتب الحَدِيث والسيرة.

إن الذى عنيت بِهِ هُوَ أن تخرج هَذِه السِّيرَة الكَرِيمَة مضبوطة بريئة من التحريف والتشويه الذى كانَ يُحِيط بها فِي طبعة البِدايَة والنِّهايَة، وأن أشرح ما يحْتاج إلى الشَّرْح من المُفْردات وأن أُشير إلى ما أصلحته من أخطاء، وما عثرت عَلَيْهِ من أهم الفروق، وأن أنبه إلى ما يستبعد من الاخبار.

ولا أزعم أنى أدّيت كل ما يجب على فِي إخْراج هَذ الكتاب، ولَكِنِّي بذلت ما أمكن حسب الطّاقَة والظرف.

وإنى اليَوْم وأنا أقدم الجُزْء الاول من هَذِه السِّيرَة، أخْلص النِّيَّة فِي بذل ما يُمكن فِي سَبِيل إخْراج بقيتها فِي أقرب ثوب إلى الصِّحَّة والكمال.

إن الظروف الَّتِى طبع فِيها هَذا الجُزْء، ولم أكن فِيها قَرِيبا من المطبعة، بل اضطرتني ظروف العَمَل إلى أن أكون بَعيدا عَنْها، قد جعلت فرْصَة لوُقُوع بعض الاخطاء الَّتِى

تداركتها فِي آخر الكتاب، وبَعضها مطبعى بحت، والآخر سَهْو ونقص، ومِنها قسم هُوَ من أخطاء أصُول الكتاب تبينته من المراجع ونبهت إلَيْهِ حَتّى يكون القارئ على بَصِيرَة من أمره.

وحسبي فِي هَذا العَمَل نيتى وقصدي، ولكُل امْرِئ ما نوى … راجيا من الله سُبْحانَهُ أن ينفع بِهِ وأن يُهَيِّئ لى إتْمامه بِما يرضيه، إنَّه واهب الرشد ومانح التَّوْفِيق، لَهُ الحَمد فِي الاولى والآخِرَة، نعم المولى ونعم النصير.

القاهِرَة ٢٣ من ذى الحجَّة سنة ١٣٨٣ ٥ من مايو سنة ١٩٦٤ مصطفى عبد الواحِد

ذكر أخْبار العَرَب

(١ / ١ السِّيرَة)

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قِيلَ: إنَّ جَمِيعَ العَرَبِ يَنْتَسِبُونَ إلى إسْماعِيلَ بْنِ ابْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ والتَّحِيَّةُ والإكْرامُ.

والصَّحِيحُ المَشْهُور أن العَرَب العاربة قبل إسْماعِيل، ومِنهُم عادٌ وثَمُودُ وطَسْمٌ وجَدِيسٌ وأمِيمٌ وجُرْهُمٌ والعَمالِيقُ، وأمم آخَرُونَ لا يعلمهُمْ إلّا الله، كانُوا قَبْلَ الخَلِيلِ ﵊ وفِي زَمانِهِ أيْضًا.

فَأمّا العَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ، وهُمْ عَرَبُ الحِجازِ، فَمِن ذُرِّيَّةِ إسْماعِيلَ بْنِ ابْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ.

وأمّا عَرَبُ اليَمَنِ وهُمْ حِمْيَرُ فالمَشْهُورُ أنهم من قحطان، واسْمه مهزم.

قالَهُ ابْنُ ماكُولا.

وذَكَرُوا أنَّهُمْ كانُوا أرْبَعَةَ إخْوَةٍ: قَحْطانُ وقاحِطٌ ومِقْحَطٌ وفالِغٌ.

وقَحْطانُ بْنُ هُودٍ، وقِيلَ هُوَ هُودٌ.

وقِيلَ هُودٌ أخُوهُ.

وقِيلَ مِن ذُرِّيَّتِهِ.

وقِيلَ إنَّ قَحْطانَ مِن سلالة إسْماعِيل، حَكاهُ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ.

فَقالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قحطان [ابْن الهَمَيْسَعِ (١) ] بْنِ تَيْمَنَ بْنِ قَيْذَرَ [بْنِ نَبْتِ (١) ] بْنِ إسْماعِيلَ.

وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ إلى إسْماعِيلَ واللَّهُ أعْلَمُ.

وقَدْ تَرْجَمَ البُخارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلى ذَلِكَ فَقالَ: (بابُ نِسْبَةِ اليَمَنِ إلى إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ) حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يَحْيى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي عُبَيْدٍ، حَدثنا سَلمَة رضى الله عَنهُ

(١) من المخطوطة (*)

قالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى قوم من أسلم يتناضلون بِالسُّيُوفِ فَقالَ: «ارْمُوا بَنِي إسْماعِيلَ وأنا مَعَ بَنِي فلان» لاحَدَّ الفَرِيقَيْنِ، فأمسكوا بِأيْدِيهِم، فَقالَ: مالكم؟ قالُوا: وكَيْفَ نَرْمِي وأنْتَ مَعَ بَنِي فُلانٍ، فَقالَ: «ارموا وأنا مَعكُمْ كلكُمْ (١)».

تفرد بِهِ البُخارِيُّ.

وفِي بَعْضِ ألْفاظِهِ: «ارْمُوا بَنِي إسْماعِيلَ فَإنَّ أباكُمْ كانَ رامِيًا، ارْمُوا وأنا مَعَ ابْنِ الأدْرَعِ» فَأمْسَكَ القَوْمُ فَقالَ ارْمُوا وأنا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ.

قالَ البُخارِيُّ: وأسْلَمُ (٢) بْنُ أفْصى بْنِ حارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ مِن خُزاعَةَ.

يَعْنِي: وخُزاعَةُ فِرْقَةٌ مِمَّنْ كانَ تَمَزَّقَ مِن قَبائِلِ سَبَأٍ حِينَ أرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ.

كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ.

وكانَتِ الأوْسُ والخَزْرَجُ مِنهُمْ، وقَدْ قالَ لَهُمْ ﵊: «ارْمُوا بَنِي إسْماعِيلَ» فَدَلَّ عَلى أنَّهُمْ مِن سُلالَتِهِ.

وتَأوَّلَهُ آخَرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ جِنْسُ العَرَبِ، لَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ بِعِيدٌ إذْ هُوَ خِلافُ الظّاهِرِ بِلا دَلِيلٍ.

لَكِنَّ الجُمْهُورَ عَلى أنَّ العَرَبَ القَحْطانِيَّةَ مِن عَرَبِ اليَمَنِ وغَيْرِهِمْ لَيْسُوا مِن

سُلالَةِ إسْماعِيلَ.

وعِنْدَهُمْ أنَّ جَمِيعَ العَرَبِ يَنْقَسِمُونَ إلى قِسْمَيْنِ: قَحْطانِيَّةٍ وعَدْنانِيَّةٍ.

فالقَحْطانِيَّةُ شَعْبانِ: سَبَأٌ وحَضْرَمَوْتُ.

والعَدْنانِيَّةُ شَعْبانِ أيْضًا: رَبِيعَةُ ومُضَرُ، ابْنًا نِزارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنانَ، والشَّعْبُ الخامِسُ وهُمْ قُضاعَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ، فَقِيلَ إنَّهُمْ عَدْنانِيُّونَ قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وعَلَيْهِ الأكْثَرُونَ.

ويُرْوى هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وجُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ، وهُوَ اخْتِيارُ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكّارٍ وعَمِّهِ مُصْعَبِ الزُّبَيْرِيِّ وابْنِ هِشامٍ.

وقَدْ ورَدَ فِي حَدِيثِ: «قُضاعَةَ بن معد» ولكنه لا يَصِحُّ.

قالَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُ.

(١) صَحِيح البُخارِيّ ج ٢ ص ١٣٣.

(٢) البُخارِيّ: ومِنهُم أسلم.

(*)

ويُقالَ: إنَّهُمْ لَمْ (١) يَزالُوا فِي جاهِلِيَّتِهِمْ وصَدْرٍ مِنَ الإسْلامِ يَنْتَسِبُونَ إلى عَدْنانَ، فَلَمّا كانَ فِي زَمَنِ خالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ، وكانو أخْوالَهُ، انْتَسَبُوا إلى قَحْطانَ، فَقالَ فِي ذَلِكَ أعْشى بْنُ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ: أبْلِغْ قُضاعَةَ فِي القِرْطاسِ أنَّهُمُ * لَوْلا خَلائِفُ آلِ الله ما عنقوا قالَتْ قُضاعَةُ إنّا مِن ذَوِي يُمْنٍ * واللَّهُ يعلم ما بروا ولا (٢) صَدَقُوا قَدِ ادَّعَوْا والِدًا ما نالَ أُمَّهُمُ * قَدْ يَعْلَمُونَ ولَكِنْ ذَلِكَ الفَرَقُ وقَدْ ذَكَرَ أبُو عَمْرٍو السُّهَيْلِيُّ أيْضًا مِن شِعْرِ العَرَبِ ما فِيهِ إبداع فِي تعيير (٣) قضاعة فِي فِي انْتِسابِهِمْ إلى اليَمَنِ.

واللَّهُ أعْلَمُ.

والقَوْلُ الثّانِي أنَّهُمْ مِن قَحْطانَ، وهُوَ قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ والكَلْبِيِّ وطائِفَةٍ مِن أهْلِ النَّسَبِ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وهُوَ قُضاعَةُ بْنُ مالِكِ بْنِ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ.

وقَدْ قالَ بَعْضُ شُعَرائِهِمْ وهُوَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، صَحابِيٌّ لَهُ حَدِيثانِ: - يا أيُّها الدّاعِي ادْعُنا وأبْشِرْ * وكُنْ قُضاعِيًّا ولا تُنْزِرْ

- نَحْنُ بَنُو الشَّيْخِ الهِجانِ الأزْهَرِ (٤) * قُضاعَةَ بْنِ مالِكِ بْنِ حِمْيَرِ النَّسَبُ المَعْرُوفُ غَيْرُ المُنْكَرِ * فِي الحَجَرِ المَنقُوشِ تَحْتَ المِنبَرِ قالَ بَعْضُ أهْلِ النَّسَبِ: هُوَ قُضاعَةُ بْنُ مالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِمْيَرَ.

وقالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ سُوَيْد، عَن أبى عشابة (٥) مُحَمَّد بن مُوسى، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ، قالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أما نَحْنُ مِن مَعَدٍّ؟ قالَ لا.

قلت: فَمن نَحن؟ قالَ: أنْتُم من قضاعة بن مالك بن حمير.

(١) فِي الاصل: لن، وهُوَ خطأ (٢) المطبوعة: وما (٣) المطبوعة: تَفْسِير.

وهُوَ خطأ (٤) الهجان: الرجل الحسيب.

والازهر: المشرق الوَجْه.

(٥) كَذا بالمطبوعة وفى المخطوطة: مشابة ولا وجود لَهما.

ولَعَلَّه أبوعشانة حى بن يُؤمن.

(*)

قالَ أبُو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: ولا يَخْتَلِفُونَ أنَّ جُهَيْنَةَ بْنَ زيد بن أسود بْنِ أسْلَمَ بْنِ عِمْرانَ بْنِ الحافَ بْنِ قُضاعَةَ قَبِيلَةُ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ الجُهَنِيِّ، فَعَلى هَذا قُضاعَةُ فِي اليَمَنِ فِي حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ.

وقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ بِما ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ وغَيْرُهُ مِن أنَّ قُضاعَةَ امْرَأةٌ مِن جُرْهُمٍ تَزَوَّجَها مالِكُ بْنُ حِمْيَرَ فَوَلَدَتْ لَهُ قُضاعَةَ، ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْها مَعَدُّ بْنُ عَدْنانَ، وابْنُها صَغِيرٌ، وزَعَمَ بَعْضُهُمْ أنَّهُ كانَ حَمْلًا فَنُسِبَ إلى زَوْجِ أُمِّهِ، كَما كانَتْ عادَةُ كَثِيرٍ مِنهُمْ يَنْسُبُونَ الرَّجُلَ إلى زَوْجِ أُمِّهِ (١) واللَّهُ أعْلَمُ.

وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ البَصْرِيُّ النَّسّابَةُ: العَرَبُ ثَلاثَةُ جَراثِيمَ: العَدْنانِيَّةُ والقَحْطانِيَّةُ وقُضاعَةُ.

قِيلَ لَهُ: فَأيُّهُما أكْثَرُ العَدْنانِيَّةُ أوِ القَحْطانِيَّةُ؟ فَقالَ: ما شاءَتْ قضاعة، إن تيامنت فالقحطانية أكثر وإن تعدننت فالعدنانية أكثر.

وهَذا يدل على أنهم يتلونون فِي نَسَبِهِمْ، فَإنْ صَحَّ حَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ المُتَقَدّم فَهُوَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُمْ مِنَ القَحْطانِيَّةِ واللَّهُ أعلم.

وقد قالَ الله تَعالى (يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِن

ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُم (٢).

قالَ عُلَماءُ النَّسَبِ: يُقالَ شُعُوبٌ، ثُمَّ قَبائِلُ، ثُمَّ عَمائِرُ، ثُمَّ بُطُونٌ، ثُمَّ أفْخاذٌ، ثُمَّ فَصائِلُ، ثُمَّ عَشائِرُ، والعَشِيرَةُ أقْرَبُ النّاسِ إلى الرجل ولَيْسَ بعْدها شئ.

ولْنَبْدَأْ أوَّلًا بِذِكْرِ القَحْطانِيَّةِ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَهُمْ عَرَبَ الحِجازِ وهُمُ العَدْنانِيَّةُ وما كانَ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنْ شاءَ الله تَعالى وبِه الثِّقَة.

(١) قالَ الجوانى فِي كِتابه أصُول الاحساب: «فَجاءَت بقضاعة على فراش مالك بن مرّة، فنسبته العَرَب إلى زوج أمه مالك بن مرّة، وهى عادَة للْعَرَب فِيمَن يُولد على فراش زوج أمه.

وقيل إن اسْم الجرهمية.

قضاعة، فَلَمّا جاءَت بِوَلَدِها سمته باسمها، وقيل: بل كانَ اسْمه عمرا، فَلَمّا تقضع عَن قومه أي بعد سمى قضاعة» (٢) سُورَة الحجرات ١٣.

(*)

وقَدْ قالَ البُخارِيُّ (بابُ ذِكْرِ قَحْطانَ) حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ ابْن بِلالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أبِي الغَيْثِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِن قَحْطانَ يَسُوقُ النّاسَ بِعَصاهُ» (١) وكَذا رَواهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ الدَّراوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ.

قالَ السُّهَيْلِيُّ: وقَحْطانُ أوَّلُ مَن قِيلَ لَهُ «أبَيْتَ اللَّعْنَ» وأوَّلُ مَن قِيلَ لَهُ «أنْعِمْ صَباحًا».

وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا أبُو المُغِيرَةِ، عَنْ جرير حَدَّثَنِي راشِدُ بْنُ سَعْدٍ المَقْرائِيُّ عَنْ أبِي حَيٍّ، عَن ذى فجر أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ «كانَ هَذا الأمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزْعَهُ اللَّهُ مِنهُمْ فَجَعَلَهُ فِي قُرَيْشٍ (وسَ يَ ع ود إ ل ي هـ م) قالَ عبد الله: كانَ هَذا فِي كتاب أبى وحَيْثُ حَدَّثَنا بِهِ تَكَلَّمَ بِهِ عَلى الِاسْتِواءِ، يعْنى:»وسَيَعُودُ إلَيْهِم".

(١) صَحِيح البُخارِيّ ٢ / ١٣٥ (*)

قِصَّةُ سَبَأٍ قالَ اللَّهُ تَعالى (لَقَدْ كانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وشِمالٍ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكُمْ واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ورَبٌّ غَفُورٌ.

فَأعْرَضُوا فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خمط وأثل وشئ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ.

ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهَلْ نُجازِي إلّا الكَفُورَ.

وجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وبَيْنَ القُرى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرًى ظاهِرَةً وقَدَّرْنا فِيها السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وأيّامًا آمِنِينَ.

فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أسْفارِنا وظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ ومَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ) (١).

قالَ عُلَماءُ النَّسَبِ مِنهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: اسْمُ سَبَأٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يعرب ابْن قحطان.

قالُوا: وكانَ أول من سبى من العَرَبِ فَسُمِّي سَبَأً لِذَلِكَ.

وكانَ يُقالَ لَهُ الرّائِشُ، لِأنَّهُ كانَ يُعْطِي النّاسَ الأمْوالَ مِن مَتاعِهِ.

قالَ السُّهَيْلِيُّ: ويُقالَ إنَّهُ أوَّلُ مَن تَتَوَّجَ.

وذَكَرَ بَعْضُهُمْ أنَّهُ كانَ مُسْلِمًا، وكانَ لَهُ شِعْرٌ بَشَّرَ فِيهِ بِوُجُودِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمَن ذَلِكَ قَوْلُهُ: سَيَمْلِكُ بَعْدَنا مُلْكًا عَظِيمًا * نَبِيٌّ لا يُرَخِّصُ فِي الحَرامِ ويَمْلِكُ بَعْدَهُ مِنهُمْ مُلُوكٌ * يَدِينُونَ العِبادَ بِغَيْرِ ذامِ ويَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنّا مُلُوكٌ * يَصِيرُ المُلْكُ فِينا بِاقْتِسامِ ويَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطانٍ نبى * تقى، مخبت (٢) خَيْرُ الأنامِ يُسَمّى أحْمَدًا يا لَيْتَ أنِّي * أعمر بعد مبعثه بعام

(١) سُورَة سبأ ١٥ - ١٩ (٢) الاصل: جَبينه.

وما أثْبته من التَّفْسِير.

(*)

فأعضده وأحبوه بنصري * بِكُل مدجج وبِكُل رامى مَتى يَظْهَرْ فَكُونُوا ناصِرِيهِ * ومَن يَلْقاهُ يُبْلِغْهُ سَلامِي حَكاهُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتابِهِ «التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ البَشِيرِ النَّذِيرِ».

وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنا عبد الله بن لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ هُبَيْرَةَ السَّبائِيُّ عَن عبد الرَّحْمَن بن وعلة قالَ (١) ] سَمِعت عبد الله بن عَبّاس يَقُولُ: إنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ سَبَأٍ ما هُوَ؟ أرْجُلٌ أمِ امْرَأةٌ أمْ أرْضٌ؟ قالَ: «بَلْ هُوَ رَجُلٌ ولَدَ عَشَرَةً، فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُمْ سِتَّةٌ، وبِالشّامِ مِنهُمْ أرْبَعَةٌ.

فَأمّا اليَمانِيُّونَ فَمَذْحِجٌ وكِنْدَةُ والازد والاشعريون وأنمار وحمير [عربا كلها (٢) ] وأمّا الشّامِيَّةُ فَلَخْمٌ وجُذامٌ وعامِلَةُ وغَسّانُ (٣)».

وقَدْ ذَكَرْنا فِي التَّفْسِيرِ أنَّ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ الغُطَيْفِيَّ هُوَ السّائِلُ عَنْ ذَلِكَ، كَما اسْتَقْصَيْنا طرق هَذا الحَدِيث وألْفاظه هُناكَ ولِلَّهِ الحَمْدُ.

والمَقْصُودُ أنَّ سَبَأً يَجْمَعُ هَذِهِ القَبائِلَ كُلَّها، وقَدْ كانَ فِيهِمُ التَّبابِعَةُ بِأرْضِ اليَمَنِ واحِدُهُمْ تُبَّعٌ، وكانَ لِمُلُوكِهِمْ تِيجانٌ يَلْبَسُونَها وقْتَ الحُكْمِ، كَما كانَتِ الأكاسِرَةُ مُلُوكُ الفُرْسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وكانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَن مَلَكَ اليَمَنَ مَعَ الشِّحْرِ وحَضْرَمَوْتَ تُبَّعًا، كَما يُسَمُّونَ مَن مَلَكَ الشّامَ مَعَ الجَزِيرَةِ قَيْصَرَ، ومَن مَلَكَ الفُرْسَ كِسْرى، ومَن مَلَكَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، ومَن مَلَكَ الحَبَشَةَ النَّجاشِيَّ، ومَن مَلَكَ الهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وقَدْ كانَ مِن جُمْلَةِ مُلُوك حمير بِأرْض اليمن بلقيس.

وقَدْ كانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وأرْزاقٍ دارَّةٍ وثِمارٍ وزُرُوعٍ كَثِيرَةٍ، وكانُوا مَعَ ذَلِكَ عَلى الِاسْتِقامَةِ والسَّدادِ وطَرِيقِ الرَّشادِ، فَلَمّا بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كفرا أحلُّوا قَومهمْ دار البَوار.

(١) سقط من المطبوعة! وكانَ فِيها: حَدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دعلة.

(٢) من المسند (٣) المسند حَدِيث رقم ٢٩٠٠ (*)

قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا.

وزَعَمَ السُّدِّيُّ أنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ ألف نبى! فالله أعلم.

والمَقْصُود أنهم عَدَلُوا عَنِ الهُدى إلى الضَّلالِ وسَجَدُوا لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وكانَ ذَلِكَ فِي زَمانِ بِلْقِيسَ وقَبْلَها أيْضًا، واسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ حَتّى أرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ كَما قالَ تَعالى (فَأعْرَضُوا فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وبَدَّلْناهُمْ بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ.

ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهل نجازى إلّا الكفور).

ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ والخَلَفِ مِنَ المُفَسِّرِينَ وغَيْرِهِمْ أنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كانَ صَنْعَتَهُ أنَّ المِياهَ تَجْرِي مِن بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمانِ فَسَدُّوا ما بَيْنَهُما بِبَناءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا، حَتّى ارْتَفَعَ الماءُ فَحَكَمَ عَلى أعالِي الجَبَلَيْنِ، وغَرَسُوا فِيهِما البَساتِينَ والأشْجارَ المُثْمِرَةَ الأنِيقَةَ، وزَرَعُوا الزُّرُوعَ الكَثِيرَةَ، ويُقالَ كانَ أوَّلُ مَن بَناهُ سَبَأ بْنَ يَعْرُبَ وسَلَّطَ إلَيْهِ سَبْعِينَ وادِيًا يَفِدُ إلَيْهِ وجَعَلَ لَهُ ثَلاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنها الماءُ، وماتَ ولَمْ يَكْمُلْ بِناؤُهُ، فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ، وكانَ اتِّساعُهُ فرسخا فِي فَرسَخ، وكانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وعَيْشٍ رَغِيدٍ وأيّامٍ طَيِّبَةٍ، حَتّى ذَكَرَ قَتادَةُ وغَيْرُهُ أنَّ المَرْأةَ كانَتْ تَمُرُّ بِالمِكْتَلِ عَلى رَأْسِها فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمارِ مِمّا يَتَساقَطُ فِيهِ مِن نُضْجِهِ وكَثْرَتِهِ، وذَكَرُوا أنَّهُ لم يكن فِي بِلادهمْ شئ مِنَ البَراغِيثِ ولا الدَّوابِّ المُؤْذِيَةِ، لِصِحَّةِ هَوائِهِمْ وطِيبِ فِنائِهِمْ كَما قالَ تَعالى (لَقَدْ كانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وشِمالٍ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكُمْ، واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طيبَة ورب غَفُور) وكَما قالَ تَعالى: (وإذْ تَأذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

فَلَمّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وبَطَرُوا نِعْمَتَهُ، وسَألُوا بَعْدَ تَقارُبِ ما بَيْنَ قُراهُمْ وطِيبِ ما بَيْنَها مِنَ البَساتِينِ وأمْنِ الطُّرُقاتِ، سَألُوا أنْ يُباعَدَ بَيْنَ أسْفارِهِمْ وأنْ يَكُونَ سَفَرُهُمْ فِي مشاق

وتَعَبٍ، وطَلَبُوا أنْ يُبَدَّلُوا بِالخَيْرِ شَرًّا، كَما سَألَ بَنُو إسْرائِيلَ بَدَلَ المَنِّ والسَّلْوى البُقُولَ والقِثّاءَ والفُومَ والعَدَسَ والبَصَلَ، فَسُلِبُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ العَظِيمَةَ والحَسَنَةَ العَمِيمَةَ بِتَخْرِيبِ البِلادِ والشَّتاتِ عَلى وُجُوهِ العِبادِ، كَما قالَ تَعالى (فَأعْرَضُوا فَأرْسَلْنا عَلَيْهِم سيل العرم).

قالَ غَيْرُ واحِدٍ: أرْسَلَ اللَّهُ عَلى أصْلِ السد الفأر وهُوَ الجرذ ويُقال لَهُ الخُلْدُ، فَلَمّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أرْصَدُوا عِنْدَها السَّنانِيرَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، إذْ قَدْ حُمَّ القَدَرُ ولَمْ يَنْفَعِ الحَذَرُ كَلّا لا وزَرَ، فَلَمّا تَحَكَّمَ فِي أصْلِهِ الفَسادُ سَقَطَ وانْهارَ، فَسَلَكَ الماءُ القَرارَ، فَقُطِعَتْ تِلْكَ الجَداوِلُ والأنْهارُ وانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثِّمارُ، وبادَتْ تِلْكَ الزُّرُوعُ والأشْجارُ، وتَبَدَّلُوا بعْدها بردئ الأشْجارِ والأثْمارِ، كَما قالَ العَزِيزُ الجَبّارُ «وبَدَّلْناهُمْ بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل» قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُ واحِدٍ: هُوَ الأراكُ وثَمَرُهُ البَرِيرُ، وأثْلٍ وهُوَ الطَّرْفاءُ.

وقِيلَ يُشبههُ، وهُوَ حطب لا ثَمَر لَهُ «وشئ من سدر قَلِيل» وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا كانَ يُثْمِرُ النَّبْقُ كانَ قَلِيلًا مَعَ أنَّهُ ذُو شَوْكٍ كَثِيرٍ وثَمَرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، كَما يُقالَ فِي المَثَلِ: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلى رَأْسِ جَبَلٍ وعْرٍ، لا سَهْلَ فَيُرْتَقى ولا سَمِينَ فَيُنْتَقى.

ولِهَذا قالَ تَعالى «ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهَلْ نُجازِي إلّا الكفور» أيْ إنَّما نُعاقِبُ هَذِهِ العُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَن كَفَرَ بِنا وكَذَّبَ رُسُلَنا وخالَفَ أمْرَنا وانْتَهَكَ مَحارِمَنا.

وقالَ تَعالى: «فَجَعَلْناهُمْ أحادِيثَ ومَزَّقْناهُمْ كُلَّ ممزق» وذَلِكَ أنَّهُمْ لَمّا هَلَكَتْ أمْوالُهُمْ وخَرِبَتْ بِلادُهُمُ احْتاجُوا أنْ يَرْتَحِلُوا مِنها ويَنْتَقِلُوا عَنْها، فَتَفَرَّقُوا فِي غَوْرِ البِلادِ ونَجْدِها أيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر، فَنزلت طوائف مِنهُم الحجاز، ومِنهُم خُزاعَةُ، نَزَلُوا ظاهِرِ مَكَّةَ، وكانَ مِن أمْرِهِمْ ما سَنذكرُهُ، ومِنهُم المَدِينَة المنورة اليَوْمَ، فَكانُوا أوَّلَ مَن سَكَنَها، ثُمَّ نَزَلَتْ عِنْدَهُمْ ثَلاثُ قَبائِلَ مِنَ اليَهُودِ بَنُو قَيْنُقاعَ وبَنُو قُرَيْظَةَ وبَنُو النَّضِيرِ، فَحالَفُوا الأوْسَ والخَزْرَجَ وأقامُوا عِنْدَهُمْ، وكانَ مِن أمْرِهِمْ ما سَنَذْكُرُهُ، ونزلت طائِفَة

أُخْرى مِنهُمُ الشّامَ وهُمُ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِيما بَعْدُ، وهُمْ غَسّانُ وعامِلَةُ وبَهْراءُ ولَخْمٌ وجُذامٌ وتنوخ وتغلب وغَيرهم.

قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي أبُو عُبَيْدَةَ قالَ: قالَ الأعْشى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وهُوَ مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ: - وفِي ذاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ * ومَأْرِبُ (١) عَفّى عَلَيْها العَرِمْ رُخامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ * إذا جاءَ مَوّارُهُ (٢) لَمْ يَرِمْ فَأرْوى الزُّرُوعَ (٣) وأعْنابَها * عَلى سَعَةٍ ماؤُهُمْ إذْ قسم فصاروا أيادى (٤) لا يقدرُونَ * على شرب طِفْل إذا ما فُطِمْ وقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ فِي كِتابِ السِّيرَةِ أنَّ أوَّلَ مَن خَرَجَ مِنَ اليَمَنِ قَبْلَ سَيْلِ العَرِمِ عَمْرُو بْنُ عامِرٍ اللَّخْمِيُّ، ولَخْمٌ هُوَ ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الحارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ (٥) بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ (٦) بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بن زيد بن كهلان بن سبأ.

ويُقال لَخْمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ.

قالَهُ ابْنُ هِشامٍ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنَ اليَمَنِ، فِيما حَدَّثَنِي أبُو زَيْدٍ الأنْصارِيُّ، أنَّهُ رَأى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبَ الَّذِي كانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمُ الماءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شاءُوا مِن أرْضِهِمْ، فَعَلِمَ أنَّهُ لا بَقاءَ لِلسَّدِّ عَلى ذَلِكَ، فاعْتَزَمَ عَلى النَّقَلَةِ عَنِ اليَمَنِ فَكادَ قَوْمَهُ، فَأمَرَ أصْغَرَ ولَدِهِ إذا أغْلَظَ عَلَيْهِ ولَطَمَهُ أنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ ما أمَرَهُ بِهِ، فَقالَ عَمْرٌو: لا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَمَ وجْهِي فِيهِ أصْغَرُ ولَدِي.

وعَرَضَ أمْوالَهُ.

فَقالَ أشْرافٌ من

(١) المطبوعة: ومأرم.

وهُوَ خطأ (٢) مواره: ماؤُهُ الذى يضطرب ويتموج.

(٣) المطبوعة: الزَّرْع، وهُوَ خطأ (٤) ابْن هِشام: ما يقدرُونَ (٥) المطبوعة: أزْد، وهُوَ تَحْرِيف (٦) المطبوعة: مهع، وهُوَ تَحْرِيف.

(*)

أشْرافِ اليَمَنِ: اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فاشْتَرُوا مِنهُ أمْوالَهُ.

وانْتَقَلَ فِي ولَدِهِ ووَلَدِ ولَدِهِ.

وقالَتِ الأزْدُ لا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ.

فَباعُوا أمْوالَهُمْ وخَرَجُوا مَعَهُ، فَسارُوا حَتّى نَزَلُوا بِلادَ عَكٍّ مُجْتازِينَ يَرْتادُونَ البُلْدانَ، فَحارَبَتْهُمْ عَكٌّ، فَكانَتْ حَرْبُهُمْ سِجالًا، فَفِي ذَلِكَ قالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ: وعَكُّ بْنُ عَدْنانَ الَّذِينَ تَلَعَّبُوا (١) * بِغَسّانَ حَتّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ قالَ: فارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي البِلادِ، فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ الشّامَ، ونَزَلَ الأوْسُ والخَزْرَجُ يَثْرِبَ، ونَزَلَتْ خُزاعَةُ مَرًّا (٢)، ونَزَلَتْ أزْدُ السَّراةِ السَّراةَ، ونَزَلَتْ أُزْدُ عُمانَ عُمانَ.

ثُمَّ أرْسَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ، وفِي ذَلِكَ أنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآياتِ.

وقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبٌ مِن هَذا.

وعَنْ مُحَمَّد بن إسْحاق فِي رِوايَته أنَّ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ كانَ كاهِنًا.

وقالَ غَيْرُهُ: كانَتِ امْرَأتُهُ طَرِيفَةُ بِنْتُ الخَيْرِ الحِمْيَرِيَّةُ كاهِنَةً فَأُخْبِرَتْ بِقُرْبِ هَلاكِ بِلادِهِمْ، وكَأنَّهُمْ رَأوْا شاهِدَ ذَلِكَ فِي الفَأْرِ الَّذِي سُلِّطَ عَلى سَدِّهِمْ فَفَعَلُوا ما فَعَلُوا واللَّهُ أعْلَمُ.

وقَدْ ذَكَرْتُ قِصَّتَهُ مُطَوِّلَةً عَنْ عِكْرِمَةَ فِيما رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ.

فَصْلٌ: ولَيْسَ جَمِيعُ سَبَأٍ خَرَجُوا مِنَ اليَمَنِ لَمّا أُصِيبُوا بِسَيْلِ العَرِمِ، بَلْ أقامَ أكْثَرُهُمْ بِها، وذَهَبَ أهْلُ مَأْرِبٍ الَّذِينَ كانَ لَهُمُ السَّدُّ فَتَفَرَّقُوا فِي البِلادِ، وهُوَ مُقْتَضى الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ جَمِيعَ قَبائِلِ سَبَأٍ لَمْ يخرجُوا من اليمن، بل إنَّما تشاءم ومِنهُم أرْبَعَة وبقى

(١) فِي أصُول الاحساب للجوانى ص ١١١: تلقبوا (٢) هُوَ الذى يعرف بمر الظهْران، على مرحلة من مَكَّة.

(*)

بِاليَمَنِ سِتَّةٌ، وهُمْ مَذْحِجٌ وكِنْدَةُ وأنْمارٌ والأشْعَرِيُّونَ.

وأنْمارٌ هُوَ أبُو خَثْعَمٍ وبَجِيلَةَ وحِمْيَرُ، فَهَؤُلاءِ سِتُّ قَبائِلَ مِن سَبَأٍ أقامُوا بِاليَمَنِ، واسْتَمَرَّ فِيهِمُ المُلْكُ والتَّبابِعَةُ، حَتّى سَلَبَهُمْ ذَلِكَ مَلِكُ الحَبَشَةِ بِالجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُ صُحْبَةَ أمِيرَيْهِ أبْرَهَةَ وأرْياطَ نَحْوًا مِن سَبْعِينَ سَنَةً،

ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الحِمْيَرِيُّ، وكانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِقَلِيلٍ، كَما سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى وبِهِ الثِّقَةُ وعَلَيْهِ التُّكْلانُ.

ثُمَّ أرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى أهْلِ اليَمَنِ عَلِيًّا وخالِدَ بْنَ الوَلِيدِ، ثُمَّ أبا مُوسى الأشْعَرِيَّ ومُعاذَ بْنَ جبل، وكانُوا يَدْعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى ويُبَيِّنُونَ لَهُمُ الحُجَجَ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلى اليَمَنِ الأسْوَدُ العَنْسِيُّ وأخْرَجَ نُوّابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنها، فَلَمّا قُتِلَ الأسْوَدُ اسْتَقَرَّتِ اليَدُ الإسْلامِيَّةُ عَلَيْها فِي أيّامِ أبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ ﵁.

قِصَّةُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ أبِي حارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ اللَّخْمِيُّ.

كَذا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحاقَ.

وقالَ السُّهَيْلِيُّ: ونُسابُّ اليَمَنِ تَقُولُ: نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ (١).

وهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الحارِثِ بْنِ نُمارَةَ بْنِ لخم.

وقالَ الزبير ابْن بَكّارٍ: رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مالِكِ بْنِ شعوذ بن ملك بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمارَةَ بْنِ لَخْمٍ.

ولَخْمٌ أخُو جُذامٍ، وسُمِّي لَخْمًا لِأنَّهُ لخم أخاهُ على خَدّه أيْ لَطَمَهُ فَعَضَّهُ الآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَها، فَسُمِّيَ جُذامًا.

وكانَ رَبِيعَةُ أحَدَ مُلُوكِ حِمْيَرَ التَّبابِعَةِ، وخَبَرُهُ (٢) مَعَ شِقٍّ وسَطِيحٍ الكاهِنَيْنِ وإنْذارُهُما بِوُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

أمّا سَطِيحٌ فاسْمُهُ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ بن مازِن

(١) الذى فِي السُّهيْلي: وبَعْضهمْ يَقُول فِيهِ نصر بن ربيعَة وهُوَ فِي قَول نساب اليمن ربيعَة بن نصر (؟) عطفها على قَوْله: قصَّة ربيعَة.

(*)

غَسّانَ.

وأمّا شِقٌّ فَهُوَ ابْنُ صَعْبِ بْنِ يشْكر بن رهم بن أفرك بن قيس (١) بن عبقر ابْن أنْمارِ بْنِ نِزارٍ.

ومِنهُمْ مَن يَقُولُ أنْمارُ بْنُ أراشِ بْنِ لَحْيانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الغَوْث بن نابت (٢) بْنِ مالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلانَ بْنِ سَبَأٍ.

ويُقالَ إنَّ سَطِيحًا كانَ لا أعْضاءَ لَهُ، وإنَّما كانَ مِثْلَ السَّطِيحَةِ، ووَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ، وكانَ إذا غَضِبَ انْتَفَخَ وجَلَسَ.

وكانَ شِقٌّ

نِصْفُ إنْسانٍ، ويُقالَ إنَّ خالِدَ بْنَ عبد الله القسرى كانَ من سُلالَتَهُ.

وذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أنَّهُما وُلِدا فِي يَوْمٍ واحِدٍ، وكانَ ذَلِكَ يَوْمَ ماتَتْ طَرِيفَةُ بِنْتُ الخَيْرِ الحِمْيَرِيَّةُ، ويُقالَ إنَّها تَفَلَتْ فِي فَمِ كُلٍّ مِنهُما فَوَرِثَ الكِهانَةَ عَنْها، وهِيَ امْرَأةُ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.

واللَّهُ أعْلَمُ.

قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: وكانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكَ اليَمَنِ بَيْنَ أضْعافِ مُلُوكِ التَّبابِعَةِ، فَرَأى رُؤْيا هالَتْهُ وفَظِعَ بِها (٣)، فَلَمْ يَدَعْ كاهِنًا ولا ساحِرًا ولا عائِفًا ولا مُنَجِّمًا مِن أهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلّا جَمَعَهُ إلَيْهِ، فَقالَ لَهُمْ: إنِّي قَدْ رَأيْتُ رُؤْيا هالَتْنِي وفَظِعْتُ بِها، فَأخْبَرُونِي بِها وبِتَأْوِيلِها.

فَقالُوا: اقْصُصْها عَلَيْنا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِها.

فَقالَ: إنِّي إنْ أخْبَرْتُكُمْ بِها لَمْ أطْمَئِنَّ إلى خَبَرِكُمْ بِتَأْوِيلِها، لِأنَّهُ لا يَعْرِفُ تَأْوِيلَها إلّا مَن عَرَفَها قَبْلَ أنْ أُخْبِرَهُ بِها.

فَقالَ لَهُ رَجُلٌ مِنهُمْ: فَإنَّ كانَ المَلِكُ يُرِيدُ هَذا فَلْيَبْعَثْ إلى شِقٍّ وسَطِيحٍ، فَإنَّهُ لَيْسَ أحَدٌ أعْلَمَ مِنهُما، فَهُما يُخْبِرانِهِ بِما سَألَ عَنْهُ.

فَبَعَثَ إلَيْهِما، فَقَدِمَ إلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقالَ لَهُ: إنِّي قَدْ رَأيْتُ رُؤْيا هالَتْنِي وفَظِعْتُ بِها، فَأخْبِرْنِي بِها، فَإنَّكَ إنْ أصَبْتَها أصَبْتَ تَأْوِيلَها.

فَقالَ أفعل.

رَأيْت

(١) فِي ا: قسر.

(٢) وتروى: نبت، كَما فِي الِاشْتِقاق لِابْنِ دُرَيْد (٣) فظع بها: اشتدت عَلَيْهِ.

(*)

حُمَمَةً (١) خَرَجَتْ مِن ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأرْضٍ تَهَمَةٍ (٢)، فَأكلت مِنها كل ذات جمحمة.

فَقالَ لَهُ المَلِكُ: ما أخْطَأْتَ مِنها شَيْئًا يا سَطِيحُ، فَما عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِها؟ قالَ: أحْلِفُ بِما بَيْنَ الحَرَّتَيْنِ مِن حَنَشٍ، لَتَهْبِطَنَّ أرْضَكُمُ الحَبَشُ، فَلْيَمْلِكُنَّ ما بَيْنَ أبْيَنَ إلى جرش (٣).

فَقالَ لَهُ الملك: يا سَطِيحُ إنَّ هَذا لَنا لَغائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتى هُوَ كائِنٌ أفِي زَمانِي أمْ بَعْدَهُ؟ فَقالَ: لا وأبِيك بَلْ بَعْدَهُ بِحِينٍ، أكْثَرَ مِن سِتِّينَ أوْ سَبْعَيْنَ، يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينَ.

قالَ: أفَيَدُومُ ذَلِكَ مِن سُلْطانِهِمْ أمْ يَنْقَطِعُ؟ قالَ بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعٍ وسَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ

ويَخْرُجُونَ مِنها هارِبِينَ.

قالَ ومَن يَلِي ذَلِكَ مِن قَتلهمْ وإخراجهم؟ قالَ يَلِيهِ (٤) إرَمُ ذِي يَزَنَ (٥)، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِن عَدَنٍ، فَلا يَتْرُكُ مِنهُمْ أحَدًا بِاليَمَنِ.

قالَ: أفَيَدُومُ ذَلِكَ مِن سُلْطانِهِ أمْ يَنْقَطِعُ؟ قالَ بَلْ يَنْقَطِعُ.

قالَ ومَن يَقْطَعُهُ؟ قالَ: نَبِيٌّ زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الوَحْيُ مِن قِبَلِ العَلِيِّ.

قالَ ومِمَّنْ هَذا النَّبِيُّ؟ قالَ رَجُلٌ مِن ولَدِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مالِكِ بْنِ النَّضْرِ يَكُونُ المُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ.

قالَ وهَلْ لِلدَّهْرِ مِن آخِرٍ؟ قالَ: نَعَمْ يَوْم يجمع فِيهِ الأولونَ والآخرُونَ، يسْعد فِيهِ المُحْسِنُونَ ويَشْقى فِيهِ المُسِيئُونَ.

قالَ أحَقٌّ ما تُخْبِرُنِي؟ قالَ: نَعَمْ، والشَّفَقِ والغَسَقِ، والفَلَقِ إذا اتَّسَقَ، إنَّ ما أنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.

قالَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ فَقالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ وكَتَمَهُ ما قالَ سَطِيحٌ، لِيَنْظُرَ أيَتَّفِقانِ أمْ يَخْتَلِفانِ.

قالَ: نَعَمْ رَأيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِن ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وأكَمَةٍ، فَأكَلَتْ مِنها كُلَّ ذاتِ نَسَمَةٍ.

فَلَمّا قالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أنَّهُما قَدِ اتَّفَقا وأنَّ قَوْلَهُما واحِدٌ، إلّا أنَّ سَطِيحًا قالَ «وقَعَتْ بِأرْضٍ تَهَمَةٍ فَأكَلَتْ مِنها كُلَّ ذاتِ جُمْجُمَةٍ» وقالَ شِقٌّ: «وقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وأكَمَةٍ فَأكَلَتْ مِنها كُلَّ ذاتِ نَسَمَةٍ» فَقالَ لَهُ المَلِكُ ما أخْطَأْتَ يا شِقُّ مِنها شَيْئًا، فَما عِنْدَكَ

(١) الحممة: قِطْعَة النّار.

(٢) تُهْمَة: منخفضة ومِنه سميت تهامَة.

(٣) ؟ ن وجرش: مخلافان من مخاليف اليمن.

(٤) المطبوعة: يليهم وهُوَ خطأ.

(٥) إنَّما قالَ: ارْمِ ذى يزن، واسْمه سيف، لانه شبهه بعاد إرم فِي عظم الخلق والقُوَّة.

(*)

فِي تَأْوِيلِها؟ فَقالَ: أحْلِفُ بِما بَيْنَ الحَرَّتَيْنِ مِن إنْسانٍ، لَيَنْزِلَنَّ أرْضِكُمُ السُّودانُ، فَلْيَغْلِبُنَّ عَلى كُلِّ طَفْلَةِ البَنانِ، ولِيَمْلِكُنَّ ما بَيْنَ أبْيَنَ إلى نَجْرانَ.

فَقالَ لَهُ المَلِكُ: وأبِيكَ يا شِقُّ إنَّ هَذا لَنا لَغائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتى هُوَ كائِنٌ أفِي زَمانِي أمْ بَعْدَهُ؟ قالَ: لا بَلْ بَعْدَهُ بِزَمانٍ، ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنهُمْ عَظِيم ذوشان، ويُذِيقُهُمْ أشَدَّ الهَوانِ.

قالَ: ومَن هَذا العَظِيمُ الشّانِ؟ قالَ غُلامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ ولا مُدَنٍّ (١) يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْتِ ذِي يَزَنَ.

قالَ أفَيَدُومُ سُلْطانُهُ

أمْ يَنْقَطِعُ قالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالحَقِّ والعَدْلِ، مِن أهْلِ الدِّينِ والفَضْلِ، يَكُونُ المُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلى يَوْمِ الفَصْلِ.

قالَ وما يَوْمُ الفَصْلِ؟ قالَ: يَوْم يجزى فِيهِ الوُلاةُ، يُدْعى فِيهِ مِنَ السَّماءِ بِدَعَواتٍ تسمع مِنها الأحْياءُ والأمْواتُ، ويُجْمَعُ النّاسُ فِيهِ لِلْمِيقاتِ، يَكُونُ فِيهِ لِمَنِ اتَّقى الفَوْزُ والخَيْراتُ.

قالَ أحَقٌّ ما تَقُولُ؟ قالَ إي ورَبِّ السَّماءِ والأرْضِ، وما بَيْنَهُما مِن رَفْعٍ وخَفْضٍ، إنَّ ما أنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ ما فِيهِ أمْضٌ (٢).

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ما قالا، فَجَهَّزَ بَنِيهِ وأهْلَ بَيْتِهِ إلى العِراقِ، وكَتَبَ لَهُمْ إلى مَلِكٍ مِن مُلُوكِ فارِسَ يُقالُ لَهُ سابُورُ بْنُ خُرَّزاذَ فَأسْكَنَهُمُ الحِيرَةَ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَمِن بَقِيَّةِ ولَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمانُ بْنُ المُنْذِرِ، بْنِ النُّعْمانِ بْنِ المُنْذِرِ، بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ، بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، يَعْنِي الَّذِي كانَ نائِبًا عَلى الحِيرَةِ لِمُلُوكِ الأكاسِرَةِ، وكانَتِ العَرَبُ تَفِدُ إلَيْهِ وتَمْتَدِحُهُ.

وهَذا الَّذِي قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ مِن أنَّ النُّعْمانَ بْنَ المُنْذِرِ مِن سُلالَةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ قالَهُ أكْثَرُ النّاسِ.

وقَدْ رَوى ابْنُ إسْحاقَ أنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ لَمّا جئ بِسَيْفِ النُّعْمانِ بْنِ المُنْذِرِ سَألَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ عَنْهُ مِمَّنْ كانَ؟ فَقالَ مِن أشْلاءِ (٣) قُنُصِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنانَ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فاللَّهُ أعْلَمُ أيُّ ذَلِكَ كانَ.

(١) المدن: المقصر فِي الامور (٢) الامض: الشَّك، بِلِسان حمير (٣) الاشلاء: البقايا (*)

قِصَّةُ تُبَّعٍ أبِي كَرِبٍ تُبّانِ أسْعَدَ، مَلِكِ اليَمَنِ مَعَ أهْلِ المَدِينَةِ وكَيْفَ أرادَ غَزْوَ البَيْتَ الحَرامَ، ثُمَّ شَرَّفَهُ وعَظَّمَهُ وكَساهُ الحُلَلَ فَكانَ أوَّلَ مَن كَساهُ قالَ ابْنُ إسْحاقَ.

فَلَمّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ اليَمَنِ كُلِّهِ إلى حَسّانَ بْنِ تُبّانِ أسْعَدَ أبى كرب.

وتبان أسعد هُوَ تبع الآخر ابْن كلكى كرب (١) بن زيد،

وزيد تبع الاول بن عَمْرٍو ذِي الأذْعارِ، بْنِ أبْرَهَةَ ذِي المَنارِ، بْنِ الرّائِشِ (٢)، بْنِ عَدِيِّ، بْنِ صَيْفِيِّ، بْنِ سَبَأٍ الأصْغَرِ، بْنِ كَعْبٍ كَهْفِ الظُّلَمِ، بْنِ زَيْدِ، بْنِ سَهْلِ، بْنِ عَمْرِو، بْنِ قَيْسِ (٣)، بن مُعاوِيَة، بن جشم، بن عبد شمس، بن وائِل، بن الغَوْث، ابْن قَطَنِ، بْنِ عَرِيبِ، بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أيْمَنَ (٤) بْنِ الهَمَيْسَعِ بْنِ العَرَنْجَجِ (٥) والعَرَنْجَجُ هُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الأكْبَرُ، بْنُ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطانَ.

قالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ هِشامٍ: سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ (٦).

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وتُبّانُ أسْعَدَ أبُو كَرِبٍ هُوَ الَّذِي قَدِمَ المَدِينَةَ وساقَ الحَبْرَيْنِ مِنَ يهود إلى اليَمَنِ، وعَمَّرَ البَيْتَ الحَرامَ وكَساهُ، وكانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، وكانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقُهُ حِينَ رَجَعَ مِن غَزْوَةِ بِلادِ المَشْرِقِ (٧) عَلى المَدِينَةِ، وكانَ قَدْ مَرَّ بِها فِي بُدَأتِهِ فَلَمْ يُهِجْ أهْلَها وخَلَّفَ بَيْنَ أظْهُرِهِمُ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً، فَقَدِمَها وهُوَ مجمع لا خرابها

(١) كَذا فِي الرَّوْض الانف، وفى ابْن هِشام: كلى كرب.

(٢) ويُقال الريش، كَما فِي ابْن هِشام (٣) الاصل: «قس» وهُوَ خطأ.

(٤) الاصل: أنس والتصويب من ابْن هِشام ١ / ٢٠ (٥) المطبوعة: العربحج وهُوَ خطأ.

ولَيْسَت النُّون فِي العرنجج زائِدَة، وهُوَ من قَوْلهم اعرنجج الرجل فِي أمره: إذا جد فِيهِ، كَأنَّهُ افعنلل.

الِاشْتِقاق ٣٦٢.

(٦) الذى فِي ابْن هِشام: يشجب بن يعرب؟ بِدُونِ ذكر سبأ.

(٧) ابْن هِشام: حِين أقبل من المشرق.

(*)

واسْتِئْصالِ أهْلِها وقَطْعِ نَخْلِها، فَجَمَعَ لَهُ هَذا الحَيُّ مِنَ الأنْصارِ ورَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ (١) أخُو بَنِي النَّجّارِ ثُمَّ أحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، واسْمُ مَبْذُولٍ عامِرُ بْنُ مالِكِ ابْن النَّجّارِ، واسْمُ النَّجّارِ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الخَزْرَجِ بْنِ حارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامِرٍ.

وقالَ ابْنُ هِشام: عَمْرو بن طلة (١) هُوَ عَمْرُو بْنُ مُعاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عامِرِ بْنِ مالِكِ بْنِ النَّجّارِ، وطَلَّةُ أُمُّهُ، وهِيَ بِنْتُ عامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الخَزْرَجِيَّةُ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وقَدْ كانَ رَجُلٌ مِن بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجّارِ، يُقالَ لَهُ أحْمَرُ، عَدا عَلى رَجُلٍ مِن أصْحابِ تُبَّعٍ وجَدَهُ يَجُدُّ عَذْقًا لَهُ فَضَرَبَهُ بِمِنجَلِهِ فَقَتَلَهُ وقالَ: إنَّما التَّمْرُ لِمَن أبَّرَهُ.

فَزادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فاقْتَتَلُوا.

فَتَزْعُمُ الأنْصارُ أنَّهُمْ كانُوا يُقاتِلُونَهُ بِالنَّهارِ ويُقْرُونَهُ بِاللَّيْلِ، فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنهُمْ ويَقُولُ: واللَّهِ إنَّ قَوْمَنا لِكِرامٌ! وحَكى ابْنُ إسْحاقَ عَنِ الأنْصارِ أنَّ تُبَّعًا إنَّما كانَ حَنَقُهُ على اليَهُود وأنَّهُمْ (٢) مَنَعُوهُمْ مِنهُ.

قالَ السُّهَيْلِيُّ: ويُقالُ إنَّهُ إنَّما جاءَ لِنُصْرَةِ الأنْصارِ أبْناءِ عَمِّهِ عَلى اليَهُودِ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَهُمْ فِي المَدِينَةِ عَلى شُرُوطٍ فَلَمْ يَفُوا بِها واسْتَطالُوا عَلَيْهِمْ.

واللَّهُ أعْلَمُ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَبَيْنا تُبَّعُ عَلى ذَلِكَ من قِتالهمْ إذا جاءَهُ حَبْرانِ مِن أحْبارِ اليَهُودِ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ عالِمانِ راسِخانِ، حِينَ سَمِعا بِما يُرِيدُ من إهلاك المَدِينَة وأهْلها، فَقالا (٣) لَهُ: أيُّها المَلِكُ لا تَفْعَلْ فَإنَّكَ إنْ أبَيْتَ إلّا ما تُرِيدُ حِيَلَ بَيْنَكَ وبَيْنَها ولم نَأْمَن عَلَيْك

(١) الاصل: طَلْحَة وهُوَ خطأ (٢) المطبوعة أنهم.

(٣) المطبوعة: فَقالُوا.

(*)

عاجِلَ (١) العُقُوبَةِ.

فَقالَ لَهُما ولِمَ ذَلِكَ؟ قالا هِيَ مُهاجَرُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِن هَذا الحَرَمِ مِن قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزَّمانِ، تَكُونُ دارَهُ وقراره.

فتناهى [عَن ذَلِك] ورَأى أنَّ لَهُما عِلْمًا وأعْجَبَهُ ما سَمِعَ مِنهُما، فانْصَرَفَ عَنِ المَدِينَةِ واتَّبَعَهُما عَلى دِينِهِما.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ تُبَّعٌ وقَوْمُهُ أصْحابَ أوْثانٍ يَعْبُدُونَها، فَتَوَجَّهَ إلى مَكَّةَ وهِيَ طَرِيقُهُ إلى اليَمَنِ، حَتّى إذا كانَ بَيْنَ عُسْفانَ وأمَجٍ (٢) أتاهُ نَفَرٌ مِن هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْياسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نزار بن مَعَدِّ بْنِ عَدْنانَ، فَقالُوا لَهُ: أيُّها المَلِكُ، ألا نَدُلُّكَ عَلى بَيْتِ

مالٍ داثِرٍ أغْفَلَتْهُ المُلُوكُ قَبْلَكَ، فِيهِ اللُّؤْلُؤُ والزَّبَرْجَدُ والياقُوتُ والذَّهَبُ والفِضَّةُ؟ قالَ: بَلى.

قالُوا: بَيْتٌ بِمَكَّةَ يَعْبُدُهُ أهْلُهُ ويُصَلُّونَ عِنْدَهُ.

وإنَّما أرادَ الهُذَلِيُّونَ هَلاكَهُ بِذَلِكَ لَمّا عَرَفُوا مِن هَلاكِ مَن أرادَهُ من المُلُوك وبغى عِنْدَهُ فَلَمّا أجْمَعَ لِما قالُوا أرْسَلَ إلى الحَبْرَيْنِ فَسَألَهُما عَنْ ذَلِكَ، فَقالا لَهُ: ما أرادَ القَوْمُ إلّا هَلاكَكَ وهَلاكَ جُنْدَكَ، ما نعلم بَيْتا لله عزوجل اتَّخَذَهُ فِي الأرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، ولَئِنْ فَعَلْتَ ما دَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلِكَنَّ ولَيَهْلِكَنَّ مَن مَعَكَ جَمِيعًا.

قالَ: فَماذا تَأْمُرانِنِي أنْ أصْنَعَ إذا أنا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قالا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ ما يَصْنَعُ أهْلُهُ، تَطُوفُ بِهِ وتُعَظِّمُهُ وتُكْرِمُهُ، وتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ وتذلل لَهُ حَتّى تَخْرُجَ مِن عِنْدِهِ.

قالَ فَما يَمْنَعُكُما أنْتُما مِن ذَلِكَ؟ قالا: أما واللَّهِ إنَّهُ لَبَيْتُ أبِينا ابْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإنَّهُ لَكَما أخْبَرْناكَ، ولَكِنَّ أهْلَهُ حالُوا بَيْنَنا وبَيْنَهُ بِالأوْثانِ الَّتِي.

نَصَبُوها حَوْلَهُ وبِالدِّماءِ الَّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ، وهُمْ نَجَسٌ أهْلُ شِرْكٍ.

أوْ كَما قالا لَهُ.

(١) المطبوعة: جلّ، وهُوَ تَحْرِيف.

(٢) عسفان: منهلة من مناهل الطَّرِيق بَين الجحْفَة ومَكَّة.

وأمج: بلد من أعْراض المَدِينَة.

(*)

فَعَرَفَ نُصْحَهُما وصِدْقَ حَدِيثِهِما، وقَرَّبَ (١) النَّفَرَ مِن هُذَيْلٍ فَقَطَعَ أيْدِيَهُمْ وأرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضى حَتّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطافَ بِالبَيْتِ ونَحَرَ عِنْدَهُ وحَلَقَ رَأْسَهُ، وأقامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أيّامٍ فِيما يَذْكُرُونَ يَنْحَرُ بِها لِلنّاسِ ويُطْعِمُ أهْلَها ويَسْقِيَهُمُ العَسَلَ، وأُرِيَ فِي المَنامِ أنْ يَكْسُوَ البَيْتَ، فَكَساهُ الخَصَفَ (٢)، ثُمَّ أُرِيَ فِي المَنامِ أنْ يَكْسُوَهُ أحْسَنَ مِن ذَلِكَ فَكَساهُ المَعافِرَ (٣) ثُمَّ أُرِيَ أنْ يَكْسُوَهُ أحْسَنَ مِن ذَلِكَ فَكَساهُ المُلاءَ والوَصائِلَ (٤)، فَكانَ تُبَّعٌ فِيما يَزْعُمُونَ أوَّلَ مَن كَسا البَيْتَ، وأوْصى بِهِ وُلاتَهُ مِن جُرْهُمٍ وأمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وأنْ لا يُقَرِّبُوهُ دَمًا ولا ميتَة ولا مثلاة وهِيَ المَحايِضُ، وجَعَلَ لَهُ بابًا ومِفْتاحًا.

فَفِي ذَلِكَ قالَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الأحَبِّ تُذَكِّرُ ابْنَها خالِدَ بْنَ عَبْدِ مَنافِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غالِبٍ وتَنْهاهُ عَنِ البَغْيِ بِمَكَّةَ وتَذْكُرُ لَهُ ما كانَ مِن أمْرِ تبع فِيها: أبنى لا تظلم بمك * كة لا الصَّغِير ولا الكَبِير واحفظ محارمها بن * ي ولا يغرنك الغرُور أبنى من يظلم بمك * كة يَلْقَ أطْرافَ الشُّرُورْ أبُنَيَّ يُضْرَبُ وجْهُهُ * ويَلُحْ بِخَدَّيْهِ السَّعِيرْ أبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتُها * فَوَجَدْتُ ظالِمَها يَبُورْ اللَّهُ أمَّنَها وما * بُنِيَتْ بِعَرْصَتِها قُصُورْ واللَّهُ أمَّنَ طَيْرَها * والعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ ولَقَد غَزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير

(١) ابْن هِشام: فَقرب (٢) الخصف: حصر تنسج من خوص النّخل ومن الليف.

(٣) المعافر: ثِياب تنْسب إلى قَبيلَة من اليمن.

(٤) الملاء: جمع ملاءة، والوصائل: ثِياب مخططة يمنية يُوصل بَعْضها بِبَعْض.

(*)

وأذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ * فِيها فَأوْفى بِالنُّذُورْ يَمْشِي إلَيْها حافِيًا * بِفِنائِها ألْفا بَعِيرْ ويَظَلُّ يُطْعِمُ أهلها * لحم المهارى والجَزُور يسقيهم العَسَل المصف * فِي والرَّحِيضَ مِنَ الشَّعِيرْ والفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ * يُرْمَوْنَ فِيها بالصخور والملك فِي أقْصى البلا * د وفى الاعاجم والخزير (١) فاسمع إذا حدثت واف * هم كَيْفَ عاقِبَةُ الأُمُورِ

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ثُمَّ خَرَجَ تُبَّعٌ مُتَوَجِّهًا إلى اليَمَنِ بِمَن مَعَهُ من الجنُود وبِالحَبْرَيْنِ، حَتّى إذا دَخَلَ اليَمَنَ دَعا قَوْمَهُ إلى الدُّخُولِ فِيما دَخَلَ فِيهِ، فَأبَوْا عَلَيْهِ حَتّى يُحاكِمُوهُ إلى النّارِ الَّتِي كانَتْ بِاليَمَنِ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي أبُو مالِكِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أبِي مالِكٍ القُرَظِيُّ، قالَ: سَمِعْتُ ابْراهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أنَّ تُبَّعًا لَمّا دَنا مِنَ اليَمَنِ لِيَدْخُلَها حالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذَلِكَ، وقالُوا: لا تَدْخُلْها عَلَيْنا وقَدْ فارَقْتَ دِينَنا.

فَدَعاهُمْ إلى دِينِهِ وقالَ إنَّهُ خَيْرٌ مِن دينكُمْ.

قالُوا: تحاكمنا (٢) إلى النّارِ؟ قالَ: نَعَمْ.

قالَ: وكانَتْ بِاليَمَنِ، فِيما يَزْعُمُ أهْلُ اليَمَنِ، نارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، تَأْخُذ الظّالِمَ ولا تَضُرُّ المَظْلُومَ، فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأوْثانِهِمْ وما يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وخَرَجَ الحَبْرانِ بِمَصاحِفِهِما فِي أعْناقِهِما مُتَقَلِّدِيها، حَتّى قَعَدُوا لِلنّارِ عِنْدَ مَخْرَجِها الَّذِي تَخْرُجُ مِنهُ، فَخَرَجَتِ النّارُ إلَيْهِمْ فَلَمّا أقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حادُوا عَنْها وهابُوها فذمرهم (٣) من حضرهم من النّاس

(١) الخزير: أمة من العَجم، ويُقال لَهُم الخزر أيْضا.

وفى المطبوعة: الخزور وهُوَ تَحْرِيف.

(٢) ابْن هِشام: فحاكمنا (٣) ذمرهم: حضهم.

وفى المطبوعة: فزجرهم.

(*)

وأمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَها، فَصَبَرُوا حَتّى غَشِيَتْهُمْ فَأكَلَتِ الأوْثانَ وما قَرَّبُوا مَعَها ومَن حَمَلَ ذَلِكَ مِن رِجالِ حِمْيَرَ، وخَرَجَ الحَبْرانِ بِمَصاحِفِهِما فِي أعْناقِهِما تَعْرَقُ جِباهُهُما ولَمْ تَضُرَّهُما فَأصْفَقَتْ (١) عِنْدَ ذَلِك حمير على دينهما، فَمن هُنالك كانَ أصْلُ اليَهُودِيَّةِ بِاليَمَنِ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أنَّ الحَبْرَيْنِ ومَن خَرَجَ مِن حِمْيَرَ إنَّما اتَّبَعُوا النّارَ لِيَرُدُّوها، وقالُوا: مَن رَدَّها فَهُوَ أوْلى بِالحَقِّ.

فَدَنا مِنها رِجالُ حِمْيَرَ بِأوْثانِهِمْ لِيَرُدُّوها فَدَنَتْ مِنهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فحادوا عَنْها ولم يستطيعوا ردها، فَدَنا مِنها الحَبْرانِ بَعْدَ ذَلِكَ وجَعَلا يَتْلُوانِ التَّوْراةَ وهى تنكص (٢) عَنْهُما حَتّى رَدّاها إلى مَخْرَجِها الَّذِي خَرَجَتْ مِنهُ، فَأصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلى دِينِهِما.

واللَّهُ أعْلَمُ أيُّ ذَلِكَ كانَ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ رِئامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ ويَنْحَرُونَ عِنْده ويكلمون مِنهُ إذْ كانُوا عَلى شِرْكِهِمْ، فَقالَ الحَبْرانِ لِتُّبَّعٍ: إنَّما هُوَ شَيْطان يفتنهم بذلك، فَحل بَيْنَنا وبَيْنَهُ.

قالَ.

فَشَأْنُكُما بِهِ.

فاسْتَخْرَجا مِنهُ فِيما يَزْعُمُ أهْلُ اليَمَنِ كَلْبًا أسْوَدَ فَذَبَحاهُ، ثمَّ هدما ذَلِك البَيْت، فبقياه اليَوْمَ - كَما ذُكِرَ لِي - بِها آثارُ الدِّماءِ الَّتِي كانَتْ تُهْراقُ عَلَيْهِ.

وقَدْ ذَكَرْنا فِي التَّفْسِيرِ الحَدِيثَ الَّذِي ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «لا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإنَّهُ قَدْ كانَ أسْلَمَ» قالَ السُّهَيْلِيُّ: ورَوى مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تَسُبُّوا أسْعَدَ الحِمْيَرِيَّ فَإنَّهُ أوَّلُ من كسى الكَعْبَةَ».

قالَ السُّهَيْلِيُّ: وقَدْ قالَ تُّبَّعٌ حِينَ أخْبَرَهُ الحَبْرانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شِعْرًا: شَهِدْتُ عَلى أحْمَدَ أنَّهُ * رَسُول من الله بارى النسم

(١) أصفقت: اجْتمعت.

(٢) المطبوعة: تنقص، وهُوَ تَحْرِيف.

(*)

فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إلى عُمْرِهِ * لَكُنْتُ وزِيرًا لَهُ وابْنَ عَمْ وجاهَدْتُ بِالسَّيْفِ أعْداءَهُ * وفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ هَمْ قالَ: ولَمْ يَزَلْ هَذا الشِّعْرُ تَتَوارَثُهُ الأنْصارُ ويَحْفَظُونَهُ بَيْنَهُمْ، وكانَ عِنْدَ أبِي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ ﵁ وأرْضاهُ قالَ السُّهَيْلِيُّ: وذَكَرَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا فِي كِتابِ القُبُورِ أنَّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعاءَ، فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأتانِ مَعَهُما لَوْحٌ مِن فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذَّهَبِ وفِيهِ: هَذا قَبْرُ لَمِيسٍ وحُبّى ابنتى تبع، ماتتا وهُما تَشْهَدانِ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وعَلى ذَلِكَ ماتَ الصّالِحُونَ قَبْلَهُما.

ثُمَّ صارَ المُلْكُ فِيما بَعْدُ إلى حَسّانَ بْنِ تُبّانِ أسْعَدَ، وهُوَ أخُو اليَمامَةِ الزَّرْقاءِ الَّتِي صُلِبَتْ

عَلى بابِ مَدِينَةِ «جَوٍّ» فَسُمِّيَتْ مِن يَوْمِئِذٍ اليَمامَةَ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَلَمّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسّانُ بْنُ أبِي كَرِبٍ تُبّانُ أسْعَدَ، سارَ بِأهْلِ اليَمَنِ يُرِيدُ أنْ يَطَأ بِهِمْ أرْضَ العَرَبِ وأرْضَ الأعاجِمِ، حَتّى إذا كانُوا بِبَعْضِ أرْضِ العِراقِ كَرِهَتْ حِمْيَرُ وقَبائِلُ اليَمَنِ السَّيْرَ مَعَهُ وأرادُوا الرَّجْعَةَ إلى بِلادِهِمْ وأهْلِيهِمْ، فَكَلَّمُوا أخًا لَهُ يُقالَ لَهُ عَمْرٌو، وكانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ، فَقالُوا لَهُ: اقْتُلْ أخاكَ حَسّانَ ونُمَلِّكُكَ عَلَيْنا وتَرْجِعُ بِنا إلى بِلادِنا.

فَأجابَهُمْ، فاجْتَمَعُوا عَلى ذَلِكَ إلّا ذارعين الحِمْيَرِيُّ، فَإنَّهُ نَهى عَمْرًا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنهُ، فَكَتَبَ ذُو رُعَيْنٍ رُقْعَةً فِيها هَذانَ البَيْتانِ: ألا مَن يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمٍ * سَعِيدٌ مَن يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ فَأمّا حِمْيَرٌ غدرت وخانت (١) * فمعذرة الاله لذى رعين

(١) رِوايَة البَيْت فِي الِاشْتِقاق ٢٢٥: * فَإن تَكُ حمير غدرت وحانت * (*)

ثمَّ استودعها عمرا.

فَلَمّا قتل عمر وأخاه حَسّانَ ورَجَعَ إلى اليَمَنِ مُنِعَ مِنهُ النَّوْمُ وسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ، فَسَألَ الأطِبّاءَ والحُزاةَ (١) مِنَ الكُهّانِ والعَرّافِينَ عَمّا بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ واللَّهِ ما قَتَلَ رَجُلٌ أخاهُ قَطُّ أوْ ذا رحم بَغْيًا إلّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ.

فَعِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَن أمَرَهُ بِقَتْلِ أخِيهِ، فَلَمّا خَلُصَ إلى ذِي رُعَيْنٍ قالَ لَهُ: إنَّ لِي عِنْدَكَ بَراءَةً.

قالَ وما هِيَ؟ قالَ: الكِتابُ الَّذِي دَفَعْتُهُ الَيْكَ.

فَأخْرَجَهُ فاذا فِيهِ البَيْتانِ فَتَرَكَهُ ورَأى أنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ.

وهَلَكَ عَمْرٌو فَمَرَجَ أمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وتَفَرَّقُوا.

وُثُوبُ لَخْنِيعَةَ ذِي شَناتِرَ عَلى مُلْكِ اليَمَنِ وقَدْ مَلَكَها سَبْعًا وعِشْرِينَ سَنَةً.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِن حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِن بُيُوتِ المُلْكِ (٢) يُقالَ لَهُ لَخْنِيعَةُ (٣) يَنُوفُ ذُو شَناتِرَ، فَقَتَلَ خِيارَهُمْ وعَبَثَ بِبُيُوتِ أهْلِ المَمْلَكَةِ مِنهُمْ، وكانَ مَعَ

ذَلِكَ امْرَأً فاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَكانَ يُرْسِلُ إلى الغُلامِ مِن أبْناءِ المُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ (٤) لَهُ قَدْ صَنَعَها لِذَلِكَ، لِئَلّا يَمْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَطَّلِعُ مِن مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلى حَرَسِهِ ومَن حَضَرَ مِن جُنْدِهِ قَدْ أخَذَ مِسْواكًا فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ، لِيُعْلِمَهُمْ أنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنهُ.

حَتّى بَعَثَ إلى زُرْعَةَ ذِي نُواسِ بْنِ تُبّانِ أسْعَدَ أخِي حَسّانَ، وكانَ صَبِيًّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ أخُوهُ حَسّانُ، ثُمَّ شَبَّ غُلامًا جَمِيلًا وسِيمًا ذا هَيْئَةٍ وعَقْلٍ، فَلَمّا أتاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ ما يُرِيدُ مِنهُ، فَأخَذَ سِكِّينًا حَدِيدًا لَطِيفًا فَخَبَّأهُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ ونَعْلِهِ، ثُمَّ أتاهُ فَلَمّا خَلا مَعَهُ وثَبَ إلَيْهِ فَواثَبَهُ ذُو نُواسٍ فَوَجَأهُ حَتّى قَتَلَهُ، ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي الكوة الَّتِى كانَ يشرف مِنها،

(١) الحزاة: جمع حاز وهُوَ الذى ينظر فِي النُّجُوم ويقْضى بها.

وفى المطبوعة: الحذاق.

(٢) ابْن هِشام: المملكة.

(٣) قالَ ابْن دُرَيْد: المَعْرُوف فِيهِ لخيعة بِغَيْر نون، وهُوَ مُشْتَقّ من اللخع وهُوَ استرخاء اللَّحْم - الِاشْتِقاق (٤) المشْربَة: الغرفة المرتفعة.

(*)

ووَضَعَ مِسْواكَهُ فِي فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلى النّاسِ، فَقالُوا لَهُ: ذا نُواسٍ أرَطْبٍ أمْ يباس؟ فَقالَ؟ ل نخماس اسْتُرْطُبانَ لا باسَ (١) فَنَظَرُوا إلى الكُوَّةِ فاذا رَأْسُ لَخْنِيعَةَ مَقْطُوعٌ، فَخَرَجُوا فِي أثَرِ ذِي نُواسٍ حَتّى أدْرَكُوهُ، فَقالُوا: ما يَنْبَغِي أنْ يَمْلِكَنا غَيْرُكَ إذْ أرَحْتَنا مِن هَذا الخَبِيثِ.

فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، واجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وقَبائِلُ اليَمَنِ، فَكانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وتَسَمّى يُوسُفَ، فَأقامَ فِي مُلْكِهِ زَمانًا، وبِنَجْرانَ بَقايا مِن أهْلِ دين عِيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى الإنْجِيلِ، أهْلُ فَضْلٍ واسْتِقامَةٍ مِن أهْلِ دِينِهِمْ، لَهُمْ رَأْسٌ يُقالَ لَهُ عبد الله ابْن الثّامِرِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ سَبَبَ دُخُولِ أهْلِ نَجْرانَ فِي دِينِ النَّصارى، وأنَّ ذَلِكَ كانَ عَلى يَدَيْ رَجُلٍ يُقالَ لَهُ فَيْمَيُونُ، كانَ مِن عُبّادِ النَّصارى بِأطْرافِ الشّامِ، وكانَ مُجابَ الدَّعْوَةِ، وصَحِبَهُ رَجُلٌ يُقالَ لَهُ صالِحٌ، فَكانا يَتَعَبَّدانِ يَوْمَ الأحَدِ ويَعْمَلُ فَيْمَيُونُ بَقِيَّةَ

الجُمُعَةِ فِي البِناءِ، وكانَ يَدْعُو لِلْمَرْضى والزَّمْنى وأهْلِ العاهاتِ فَيُشْفَوْنَ، ثُمَّ اسْتَأْسَرَهُ وصاحِبَهُ بَعْضُ الأعْرابِ فَباعُوهُما بِنَجْرانَ، فَكانَ الَّذِي اشْتَرى فَيْمَيُونَ يَراهُ إذا قامَ فِي مُصَلّاهُ بِالبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي اللَّيْلِ يَمْتَلِئُ عَلَيْهِ البَيْتُ نُورًا، فَأعْجَبَهُ ذَلِكَ مِن أمْرِهِ.

وكانَ أهْلُ نَجْرانَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً يُعَلِّقُونَ عَلَيْها حُلِيَّ نِسائِهِمْ ويَعْكُفُونَ عِنْدَها، فَقالَ فَيْمَيُونَ لِسَيِّدِهِ: أرَأيْتَ إنْ دَعَوْتُ اللَّهَ عَلى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَهَلَكَتْ أتَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ باطِلٌ؟ قالَ: نَعَمْ.

فَجُمِعَ لَهُ أهْلُ نَجْرانَ، وقامَ فَيْمَيُونَ إلى مُصَلّاهُ فَدَعا اللَّهَ عَلَيْها، فَأرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْها قاصفا فَجَعَفَها (٢) مِن أصْلِها ورَماها إلى الأرْضِ، فاتَّبَعَهُ أهل نَجْران على

(١) نخماس الرَّأْس بلغَة حمير.

ومعنى استرطبان: أخَذته النّار، وهى كلمة فارسية.

(٢) جعفها: اقتلعها.

(*)

دِينِ النَّصْرانِيَّةِ، وحَمَلَهُمْ عَلى شَرِيعَةِ الإنْجِيلِ حَتّى حَدَثَتْ فِيهِمُ الأحْداثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلى أهْلِ دِينِهِمْ بِكُلِّ أرْضٍ.

فَمِن هُنالِكَ كانَتِ النَّصْرانِيَّةُ بِنَجْرانَ مِن أرْضِ العَرَبِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثّامِرِ حِينَ تَنَصَّرُ عَلى يَدَيْ فَيْمَيُونَ، وكَيْفَ قَتَلَهُ وأصْحابَهُ ذُو نواس وخدلهم الاخدود.

قالَ ابْنُ هِشامٍ: وهُوَ الحَفْرُ المُسْتَطِيلُ فِي الأرْضِ مِثْلُ الخَنْدَقِ.

وأجَّجَ فِيهِ النّارَ وحَرَّقَهُمْ بِها، وقَتَلَ آخَرِينَ حَتّى قَتَلَ قَرِيبًا مِن عِشْرِينَ ألفا.

كَما هُوَ مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ (والسَّماءِ ذاتِ البروج) مِن كِتابِنا التَّفْسِيرِ ولِلَّهِ الحَمْدُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ المُلْكِ بِاليَمَنِ مِن حِمْيَرَ وصَيْرُورَتِهِ إلى الحَبَشَةِ السُّودانِ كَما أخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وسَطِيحٌ الكاهِنانِ.

وذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِن أهْلِ نَجْرانَ إلّا رَجُلٌ واحِدٌ يُقالَ لَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبانِ عَلى فَرَسٍ لَهُ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأعْجَزَهُمْ، فَمَضى عَلى وجْهِهِ ذَلِكَ حَتّى أتى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فاسْتَنْصَرَهُ عَلى ذِي نُواسٍ وجُنُودِهِ، وأخْبَرَهُ بِما بَلَغَ مِنهُمْ،

وذَلِكَ لِأنَّهُ نَصْرانِيٌّ عَلى دِينِهِمْ.

فَقالَ لَهُ بَعُدَتْ بِلادُكَ مِنّا، ولَكِنْ سَأكْتُبُ لَكَ إلى مَلِكِ الحَبَشَةِ، فَإنَّهُ عَلى هَذا الدِّينِ وهُوَ أقْرَبُ إلى بِلادِكَ.

فَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ والطَّلَبِ بِثَأْرِهِ.

فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلى النَّجاشِيِّ بِكِتابِ قَيْصَرَ، فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ ألْفًا مِنَ الحَبَشَةِ وأمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنهُمْ يُقالَ لَهُ أرْياطُ، ومَعَهُ فِي جُنْدِهِ أبْرَهَةُ الأشْرَمُ، فَرَكِبَ أرْياطُ البَحْرَ حَتّى نَزَلَ بِساحِلِ اليَمَنِ ومَعَهُ دَوْسٌ، وسارَ إلَيْهِ ذُو نُواسٍ فِي حِمْيَرَ ومَن أطاعَهُ مِن قبائل اليمن.

فَلَمّا التَقَوُا انْهَزَمَ ذُو نُواسٍ وأصْحابُهُ، فَلَمّا رَأى ذُو نُواسٍ ما نَزَلْ بِهِ وبِقَوْمِهِ وجَّهَ فَرَسَهُ فِي البَحْرِ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ فِيهِ فَخاضَ بِهِ ضَحْضاحَ البَحْرِ حَتّى أفْضى بِهِ إلى غَمْرَةٍ.

فَأدْخَلَهُ فِيها، فَكانَ آخِرَ العَهْدِ بِهِ، ودَخَلَ أرْياطُ اليَمَنَ ومَلَكَها.

وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ هاهُنا أشْعارًا لِلْعَرَبِ فِيما وقَعَ مِن هَذِهِ الكائِنَةِ الغَرِيبَةِ، وفِيها فَصاحَةٌ وحَلاوَةٌ وبَلاغَةٌ وطَلاوَةٌ، ولَكِنْ تَرْكَنا إيرادَها خَشْيَةَ الاطالة وخَوف الملالة.

والله المُسْتَعانُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ أبْرَهَةَ الأشْرَمِ عَلى أرْياطَ واختلافهما واقتتالهما وصيرورة ملك اليمن إلى أبْرَهَة بعد قَتله أرياط

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَأقامَ أرْياطُ بِأرْضِ اليَمَنِ سِنِينَ فِي سُلْطانِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ نازَعَهُ أبْرَهَةُ حَتّى تَفَرَّقَتِ الحَبَشَةُ عَلَيْهِما، فانْحازَ إلى كُلٍّ مِنهُما طائِفَةٌ، ثُمَّ سارَ أحَدُهُما إلى الآخَرِ، فَلَمّا تَقارَبَ النّاسُ أرْسَلَ أبْرَهَةُ إلى أرْياطَ: إنَّكَ لَنْ تَصْنَعَ بِأنْ تُلْقِيَ الحَبَشَةَ بَعْضَها بِبَعْض حَتّى تفنيها شَيْئًا، فابْرُزْ لِي وأبْرُزُ لَكَ، فَأيُّنا أصابَ صاحِبَهُ انْصَرَفَ إلَيْهِ جُنْدُهُ، فَأرْسَلَ إلَيْهِ أرْياطُ: أنْصَفْتَ.

فَخَرَجَ إلَيْهِ أبْرَهَةُ، وكانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا، وكانَ ذا دِينٍ فِي النَّصْرانِيَّةِ، وخَرَجَ إلَيْهِ أرْياطُ وكانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا، وفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ، وخَلْفَ أبْرَهَةَ غُلامٌ يُقالَ لَهُ

عَتُودَةَ يَمْنَعُ ظَهْرَهُ، فَرَفَعَ أرْياطُ الحَرْبَةَ فَضَرَبَ أبْرَهَةَ يُرِيدُ يافُوخَهُ، فَوَقَعَتِ الحَرْبَةُ عَلى جَبْهَةِ أبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ حاجِبَهُ وعَيْنَهُ وأنْفَهُ وشَفَتَهُ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَ أبْرَهَةَ الأشْرَمَ، وحَمَلَ عَتُودَةُ عَلى أرْياطَ مِن خَلْفِ أبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ، وانْصَرَفَ جُنْدُ أرْياطَ إلى أبْرَهَةَ، فاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الحَبَشَةُ بِاليَمَنِ، ووَدى أبْرَهَةُ أرْياطَ.

فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجاشِيَّ مَلِكَ الحَبَشَةِ الَّذِي بَعَثَهُمْ إلى اليَمَنِ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلى أبْرَهَةَ، وقالَ: عَدا عَلى أمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أمْرِي! ثُمَّ حَلَفَ لا يَدَعُ أبْرَهَةَ حَتّى يَطَأ بِلادَهُ ويَجُزَّ ناصِيَتَهُ.

فَحَلَقَ أبْرَهَةُ رَأْسَهُ، ومَلَأ جِرابًا مِن تُرابِ اليَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلى النَّجاشِيِّ ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ: أيُّها المَلِكُ، إنَّما كانَ أرْياطُ عَبْدَكَ، وأنا عَبْدُكَ، فاخْتَلَفْنا فِي أمْرِكَ، وكُلٌّ طاعَتُهُ لَكَ، إلّا أنِّي كُنْتُ أقْوى عَلى أمْرِ الحَبَشَةِ وأضْبَطَ لَها وأسْوَسَ مِنهُ، وقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ المَلِكِ، وبَعَثْتُ إلَيْهِ بِجِرابِ تُرابٍ مِن أرْضِي لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَبَرَّ قَسَمَهُ فِيَّ.

فَلَمّا انْتَهى ذَلِكَ إلى النَّجاشِيِّ رضى عَنهُ وكتب إلَيْهِ أن اثْبتْ برأض اليَمَنِ حَتّى يَأْتِيَكَ أمْرِي.

فَأقامَ أبْرَهَةُ بِاليَمَنِ.

ذِكْرُ سَبَبِ قَصْدِ أبْرَهَةَ بِالفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الكَعْبَة فَأهْلَكَهُ الله عاجلا غير آجل

كَما قالَ الله تَعالى (ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحابِ الفِيلِ.

ألَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ.

وأرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أبابِيلَ.

تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كعصف مَأْكُول).

قِيلَ: أوَّلُ مَن ذَلَّلَ الفِيَلَةَ أفْرِيدُونُ بْنُ أثْفِيانَ الَّذِي قَتَلَ الضَّحّاكَ.

قالَهُ الطَّبَرِيُّ.

وهُوَ أول من اتخذ للخيل السرج.

وأمّا أوَّلُ مَن سَخَّرَ الخَيْلَ ورَكِبَها فَطَهْمُورَثُ، وهُوَ المَلِكُ

الثّالِثُ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا، ويُقالَ إنَّ أوَّلَ مَن رَكِبَها إسْماعِيلُ بْنُ ابْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أوَّلُ مَن رَكِبَها مِنَ العَرَبِ.

واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.

ويُقالَ إنَّ الفِيلَ مَعَ عَظَمَةِ خَلْقِهِ يَفْرَقُ مِنَ الهِرِّ، وقَدِ احْتالَ بَعْضُ أُمَراءِ الحُرُوبِ فِي قِتالِ الهُنُودِ بِإحْضارِ سَنانِيرَ إلى حَوْمَةِ الوَغى فَنَفَرَتِ الفِيَلَةُ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ثُمَّ إن أبْرَهَة بنى القليس بِصَنْعاء، كَنِيسَة لم ير مثلها فِي زمانها بشئ مِنَ الأرْضِ، وكَتَبَ إلى النَّجاشِيِّ: إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُها لِمَلِكٍ كانَ قَبْلَكَ، ولَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتّى أصْرِفَ إلَيْها حَجَّ العَرَبِ.

فَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أنَّ أبْرَهَةَ اسْتَذَلَّ أهْلَ اليَمَنِ فِي بِناءِ هَذِهِ الكَنِيسَةِ الخَسِيسَةِ، وسَخَّرَهُمْ فِيها أنْواعًا مِنَ السُّخَرِ، وكانَ مَن تَأخَّرَ عَنِ العَمَلِ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ يَقْطَعُ يَدَهُ لا مَحالَةَ، وجَعَلَ يَنْقُلُ إلَيْها مِن قَصْرِ بِلْقِيسَ رُخامًا وأحْجارًا وأمْتِعَةً عَظِيمَةً، ورَكَّبَ فِيها صُلْبانًا مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ، وجَعَلَ فِيها مَنابِرَ مِن عاجٍ وآبِنُوسَ، وجَعَلَ ارْتِفاعَها عَظِيمًا جِدًّا واتِّساعَها باهِرًا، فَلَمّا هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أبْرَهَة وتَفَرَّقَتْ الحَبَشَة كانَ من يتَعَرَّض لاخذ شئ مِن بِنائِها وأمْتِعَتِها أصابَتْهُ الجِنُّ بِسُوءٍ، وذَلِكَ لِأنَّها كانَتْ مَبْنِيَّةً عَلى اسْمِ صَنَمَيْنِ، كُعَيْبٍ وامْرَأتِهِ، وكانَ طُولُ كُلٍّ مِنهُما سِتُّونَ ذِراعًا، فَتَرَكَها أهْلُ اليَمَنِ عَلى حالِها.

فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إلى زَمَنِ السَّفّاحِ أوَّلِ خُلَفاءِ بَنِي العَبّاسِ، فَبَعَثَ إلَيْها جَماعَةٌ مِن أهْلِ العَزْمِ والحَزْمِ والعِلْمِ فَنَقَضُوها حَجَرًا حَجَرًا ودَرَسَتْ آثارُها إلى يَوْمِنا هَذا.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَلَمّا تَحَدَّثَتِ العَرَبُ بِكِتابِ أبْرَهَةَ إلى النَّجاشِيِّ غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ النَّسَأةِ مِن كِنانَةَ، الَّذِينَ يَنْسَئُونَ شهر الحَرامَ إلى الحِلِّ بِمَكَّةَ أيّامَ المَوْسِمِ، كَما قَررنا ذَلِك عِنْد قَوْله: (إنَّما النسئ زِيادَة فِي الكفْر).

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَخَرَجَ الكِنانِيُّ حَتّى أتى القليس فَقعدَ فِيها (١)، أيْ أحْدَثَ حَيْثُ لا يَراهُ أحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأرْضِهِ، فَأُخْبِرَ أبْرَهَةُ بِذَلِكَ، فَقالَ مَن صَنَعَ هَذا؟

فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَهُ رَجُلٌ مِن أهْلِ هَذا البَيْتِ الَّذِي تَحُجُّهُ العَرَبُ بِمَكَّة، لما سمع بِقَوْلِك أنَّك

(١) المطبوعة: فِيهِ.

(*)

تُرِيدُ أنْ تَصْرِفَ حَجَّ العَرَبِ إلى بَيْتِكَ (١) هَذا، فَغَضِبَ فَجاءَ فَقَعَدَ فِيها، أيْ أنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ بِأهْلٍ.

فَغَضِبَ أبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، وحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إلى البَيْتِ حَتّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ أمَرَ الحَبَشَةَ فَتَهَيَّأتْ وتَجَهَّزَتْ.

ثُمَّ سارَ وخَرَجَ مَعَهُ بِالفِيلِ، وسَمِعَتْ بِذَلِكَ العَرَبُ فَأعْظَمُوهُ وفَظِعُوا بِهِ، ورَأوْا جِهادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الكَعْبَةِ بَيْتَ اللَّهِ الحَرامَ.

فَخرج إلَيْهِ رجل مِن أشْرافِ أهْلِ اليَمَنِ ومُلُوكِهِمْ يُقالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ، فَدَعا قَوْمَهُ ومَن أجابَهُ مِن سائِرِ العَرَبِ إلى حَرْبِ أبْرَهَةَ وجِهادِهِ عَنْ بَيت الله الحَرام، وما يُرِيد مِن هَدْمِهِ، وإخْرابِهِ، فَأجابَهُ مَن أجابَهُ إلى ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقاتَلَهُ.

فَهُزِمَ ذُو نَفَرٍ وأصْحابُهُ، وأُخِذَ لَهُ ذُو نَفَرٍ فَأُتِيَ بِهِ أسِيرًا، فَلَمّا أرادَ قَتْلَهُ قالَ لَهُ ذُو نفر: أيُّها المَلِكُ لا تَقْتُلْنِي، فَإنَّهُ عَسى أنْ يَكُونَ بَقائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنَ القَتْلِ.

فَتَرَكَهُ مِنَ القَتْلِ وحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وثاقٍ وكانَ أبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا.

ثُمَّ مَضى أبْرَهَةُ عَلى وجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ ما خَرَجَ لَهُ، حَتّى إذا كانَ بِأرْض خثعم عرض نفَيْل بن حبيب الخَثْعَمِي فِي قبيلى (٢) خَثْعَمٍ وهُما شَهْرانُ وناهِسٌ ومَن تَبِعَهُ مِن قَبائِلِ العَرَبِ، فَقاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أبْرَهَةُ وأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ فَلَمّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أيُّها المَلِكُ لا تَقْتُلْنِي، فَإنِّي دَلِيلُكَ بِأرْضِ العَرَبِ، وهاتانِ يَدايَ لَكَ على قبيلى خَثْعَمٍ، شَهْرانَ وناهِسٍ، بِالسَّمْعِ والطّاعَةِ.

فَخَلّى سَبِيلَهُ وخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ.

حَتّى إذا مَرَّ بِالطّائِفِ خَرَجَ إلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرو ابْن سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، فِي رِجالِ ثَقِيفٍ، فَقالُوا لَهُ أيُّها المَلِكُ إنَّما نَحْنُ عَبِيدُكَ سامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنا لَكَ خِلافٌ، ولَيْسَ بَيْتُنا هَذا البَيْتَ الَّذِي تُرِيدُ،

(١) عبارَة ابْن اسحق مُخْتَلفَة عَمّا أوردهُ المُؤلف.

(٢) المطبوعة: قبيلتي.

(*)

يَعْنُونَ اللّاتَ، إنَّما تُرِيدُ البَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، ونَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَن يَدُلُّكَ عَلَيْهِ.

فَتَجاوَزَ عَنْهُمْ.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: واللّاتُ بَيْتٌ لَهُمْ بِالطّائِفِ كانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الكَعْبَةِ.

قالَ: فَبَعَثُوا مَعَهُ أبا رِغالٍ يَدُلُّهُ عَلى الطَّرِيقِ إلى مَكَّةَ، فَخَرَجَ أبْرَهَةُ ومَعَهُ أبُو رِغالٍ حَتّى أنْزَلَهُ بِالمُغَمِّسِ، فَلَمّا أنْزَلَهُ بِهِ ماتَ أبُو رِغالٍ هُنالِكَ، فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ العَرَبُ، فَهُوَ القَبْر الذى يرْجم النّاس بالمغمس.

وفى قِصَّةِ ثَمُودَ أنَّ أبا رِغالٍ كانَ رَجُلًا مِنهُمْ وكانَ يَمْتَنِعُ بِالحَرَمِ، فَلَمّا خَرَجَ مِنهُ أصابَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهُ، وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِأصْحابِهِ: «وآيَةُ ذَلِكَ أنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنانِ مِن ذَهَبٍ» فَحَفَرُوا فَوَجَدُوهُما.

قالَ وهُوَ أبُو ثَقِيفٍ.

قُلْتُ: والجَمْعُ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ ما ذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ، أنَّ أبا رِغالٍ هَذا المُتَأخِّرَ وافَقَ اسْمُهُ اسْمَ جَدِّهِ الأعْلى ورَجَمَهُ النّاسُ كَما رَجَمُوا قبر الاول أيْضا واللَّهُ أعْلَمُ.

وقَدْ قالَ جَرِيرٌ: إذا ماتَ الفَرَزْدَقُ فارْجُمُوهُ * كَرَجْمِكُمُ لِقَبْرِ أبِي رِغالِ الظّاهِرُ أنَّهُ الثّانِي.

قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَلَمّا نَزَلَ أبْرَهَةُ بِالمُغَمِّسِ بَعَثَ رَجُلًا مِنَ الحَبَشَةِ يُقالَ لَهُ الأسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ (١) عَلى خَيْلٍ لَهُ، حَتّى انْتَهى إلى مَكَّةَ، فَساقَ إلَيْهِ أمْوالَ تِهامَةَ مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ، وأصابَ فِيها مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هاشِمٍ، وهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وسَيِّدُها، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ وكِنانَةُ وهُذَيْلٌ ومَن كانَ بِذَلِكَ الحَرَمِ بِقِتالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أنَّهُ لا طاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ.

وبَعَثَ أبْرَهَةُ حُناطَةَ الحِمْيَرِيَّ إلى مَكَّةَ وقالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أهْلِ هَذا البَلَدِ وشَرِيفِهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُ إنَّ المَلِكَ يَقُولُ إنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إنَّما جِئْتُ لِهَدْمِ هَذا البَيْت،

(١) الاصل: مفصود.

والتصويب من ابْن هِشام (*)



السِّيرَة النَّبَوِيَّة للامام الحافِظ، أبى الفِداء إسْماعِيل بن كثير السِّيرَة النَّبَوِيَّة للامام الحافِظ، أبى الفِداء إسْماعِيل بن كثير Reviewed by vidtube on 1:36 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات

'; (function() { var dsq = document.createElement('script'); dsq.type = 'text/javascript'; dsq.async = true; dsq.src = '//' + disqus_shortname + '.disqus.com/embed.js'; (document.getElementsByTagName('head')[0] || document.getElementsByTagName('body')[0]).appendChild(dsq); })();